أ
أ
في أعماق بحيرات المكسيك، يختبئ كائن صغير فريد يُعرف باسم سمندل الأكسولوتل (Axolotl)، أو "وحش الماء"، هذا الكائن، ذو المظهر الأسطوري بقوامه الشفاف وخياشيمه المشعرة، لا يثير الدهشة بشكله فحسب، بل بقدرته المذهلة على تجديد أطرافه وأعضائه الداخلية، بما في ذلك القلب والدماغ، هذه القدرة العجيبة حيّرت العلماء لعقود، وجعلت منه أحد أكثر الكائنات دراسة في عالم البيولوجيا.
قدرة مذهلة: كيف يُعيد الأكسولوتل بناء قلبه وأعضائه الداخلية؟
على عكس معظم الكائنات الحية التي تُصاب بأضرار دائمة عند فقدان جزء من جسمها، يستطيع سمندل الأكسولوتل تجديد أي جزء تقريبًا من جسده، مثل الذيل، الأطراف الأربعة، أجزاء من الحبل الشوكي، عينه، وحتى أعضاء معقدة كالقلب والرئتين.أظهرت الدراسات أن هذا الكائن قادر على إعادة بناء قلبه بالكامل خلال أسابيع قليلة إذا فقد جزءًا منه، بما في ذلك الأنسجة العضلية، الصمامات، والشرايين.
وتعتمد آلية هذا التجديد المعقدة على إعادة برمجة الخلايا في المنطقة المصابة، لتعود إلى حالة تشبه الخلايا الجذعية.
هذه الخلايا المُعاد برمجتها، والقادرة على التحول إلى أي نوع من الخلايا المطلوبة لإصلاح النسيج التالف، تُعرف علميًا باسم التحول الخلوي (Dedifferentiation)، هذه العملية تفتح آفاقًا واسعة أمام العلماء لفهم كيفية علاج الإصابات البشرية المستعصية.

علم وراثة التجدد في الأكسولوتل: أسرار جينات خارقة
في السنوات الأخيرة، سعى العلماء لفك الشفرة الجينية للأكسولوتل، اكتشفوا أن حجم جينومه ضخم للغاية (أكبر بعشر مرات من جينوم الإنسان)، ويحتوي على مئات الجينات المرتبطة بتجديد الأنسجة. بعض هذه الجينات تنشط فقط خلال عمليات التجدد، وتُفرز بروتينات خاصة تدعم التواصل بين الخلايا وتُساعدها على النمو السريع والدقيق دون أخطاء أو تشوهات.وجد العلماء أن الأكسولوتل يمتلك قدرات فريدة، منها:
• كبح الاستجابة المناعية في مكان الإصابة، مما يمنع تكون الندوب التي تُعيق إعادة بناء الأنسجة.• إطلاق إشارات حيوية تُحدد الخطة الهندسية لإعادة بناء العضو التالف بدقة.
• قدرة مذهلة للخلايا على تمييز النسيج المصاب وتجديد الشكل الأصلي بدلاً من تكوين كتل عشوائية.
هذه الاكتشافات تُقود حاليًا أبحاثًا طبية متقدمة حول إمكانية زرع جينات التجدد هذه أو تفعيلها في الإنسان، مما قد يُغير تاريخ علاج الجروح، الحروق، إصابات القلب، والأعصاب.

الأكسولوتل وظاهرة البقاء يافعًا مدى الحياة
إحدى الخصائص الفريدة للأكسولوتل هي بقاؤه في مرحلة "اليرقة" الدائمة، وهي ظاهرة تُعرف بـ"الاستدامة اليرقية" (Neoteny)، على عكس معظم البرمائيات، لا يتحول الأكسولوتل إلى بالغ مكتمل النمو يعيش على اليابسة، بل يحتفظ بخياشيمه الخارجية وقدرته على العيش في الماء مدى حياته.تُمنح هذه الظاهرة الأكسولوتل صفات عديدة ضرورية للتجدد، أبرزها:
• استمرار انقسام الخلايا وقدرتها على العودة إلى الحالة الجذعية.• احتفاظه بقدرة النمو مدى الحياة.
• تأقلمه البيولوجي مع بيئة مائية مستقرة، مما يحميه من الجفاف والمخاطر.
لهذا السبب، يُعد الأكسولوتل نموذجًا مثاليًا لدراسات الشيخوخة البيولوجية، حيث يُظهر كيف يمكن للكائنات الحفاظ على شبابها الخلوي لفترات طويلة، وهو ما يُشغف العلماء الباحثين عن مفاتيح الشباب الدائم في المستقبل.

خطر الانقراض وجهود الحفاظ
على الرغم من قوى التجدد الخارقة التي يتمتع بها الأكسولوتل، فإنه يُعاني اليوم من خطر الانقراض الشديد في البرية. تُهدد الزيادة السكانية في مكسيكو سيتي، تلوث الموائل الطبيعية، وظهور أنواع مفترسة مثل الأسماك الغريبة، وجود هذا الكائن الفريد في بيئته الأصلية.ولكن، أصبح الأكسولوتل ضيفًا دائمًا في مختبرات البحث حول العالم، خاصة في اليابان، أوروبا، والولايات المتحدة، حيث يتم تربيته تحت ظروف محمية للمحافظة عليه ودراسة آليات التجدد لديه. تُقام برامج تكاثر مكثفة، وتُناشد الجمعيات البيئية المجتمع الدولي لحماية بحيرات المكسيك وضمان بقاء هذا الكنز الطبيعي للأجيال القادمة.

ماذا يمكن أن يتعلم الإنسان من سمندل الأكسولوتل؟
لقد ألهمت قدرة الأكسولوتل العلماء والأطباء للتفكير في إمكانيات لم تكن في الحسبان سابقًا. من خلال دراسة وفهم جيناته وآليات تجدد أعضائه، يأمل الباحثون في المستقبل القريب أن يتمكنوا من:• تطوير علاجات جديدة للأمراض القلبية عن طريق تحفيز تجدد القلب البشري.
• إيجاد حلول مبتكرة لضحايا الحروق والبتر، بفضل التجدد الكامل للأطراف والجلد.
• الاستفادة من خصائص تقليل الندب لتحقيق عمليات تجميلية وشفائية مثالية.
• تطوير علاجات للشيخوخة عبر الاستعانة بمفاتيح الحفاظ على "الشباب الخلوي".
كل هذه الآمال قائمة اليوم على هذا المخلوق العجيب الذي لا يتجاوز طوله 25 سنتيمترًا، لكنه قد يحمل أمل العلاج والشفاء للإنسان في المستقبل القريب.
هكذا يُثبت سمندل الأكسولوتل مرة تلو الأخرى أن أعظم الأسرار قد تختبئ أحيانًا في أصغر المخلوقات، تنتظر فقط من يكتشفها ويُعيد توظيفها لصالح البشرية.