الأحد، 02 جمادى الثانية 1447 ، 23 نوفمبر 2025

د. ناهد الوحش تكتب.. البصمة الكربونية لقطاع الألبان ودورها في تحقيق الاستدامة

11202510202227815597859
د. ناهد الوحش
أ أ
techno seeds
techno seeds
يشكل قطاع الألبان أحد أكثر القطاعات الغذائية تأثيرا على البيئة  نظرا لارتباطه بانبعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج الأعلاف  والتخمّر المعوي للأبقار وإدارة السماد واستهلاك الطاقة في مراحل التصنيع والنقل. وتعد البصمة الكربونية مؤشرا علميا محوريا لقياس هذه الانبعاثات وتقييم الأداء البيئي للمنشآت.
يهدف هذا المقال إلى تقديم رؤية علمية حول مفهوم البصمة الكربونية ومنهجيات قياسها في صناعة الألبان  مع التركيز على أهم مصادر الانبعاثات وأحدث الاتجاهات والتقنيات المبتكرة لتقليلها  دعما للتحول نحو إنتاج أكثر استدامة .
مفهوم البصمة الكربونية وعلاقتها بالاستدامة البيئية
تعرف البصمة الكربونية (Carbon Footprint) بأنها إجمالي كمية انبعاثات غازات الدفيئة (GHGs) التي تنطلق إلى الغلاف الجوي نتيجة نشاط بشري أو عملية إنتاجية محددة.                                                                 
 ويعبر عنها عادة بوحدة مكافئ ثاني أكسيد الكربون (CO₂-eq).
تشمل هذه الغازات أساسا ثاني أكسيد الكربون (CO₂) والميثان (CH₄)  وأكسيد النيتروز (N₂O) وهي الغازات الرئيسة المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري.

ترتبط البصمة الكربونية ارتباطا مباشرا بمفهوم الاستدامة البيئية  إذ تستخدم كأداة كمية لتقييم كفاءة الأنظمة الإنتاجية في استخدام الموارد وتقليل الانبعاثات. ويعد خفض البصمة الكربونية من الركائز الأساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأجندة الحياد الكربوني.

العلاقة بين البصمة الكربونية وصناعة الألبان

تعتبر صناعة الألبان من أكثر القطاعات الغذائية تعقيدا من حيث الأثر البيئي، لاعتمادها على أنظمة إنتاج حيواني كثيفة الاستخدام للموارد الطبيعية كالطاقة والمياه والأراضي الزراعية.
وتشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO, 2024) والاتحاد الدولي للألبان (IDF, 2023) إلى أن القطاع يسهم بنسبة كبيرة من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة العالمية.

تشمل مصادر الانبعاثات الرئيسية عبر سلسلة القيمة:

1. المرحلة الزراعية: إنتاج الأعلاف والأسمدة واستخدام الأراضي.
2. مرحلة المزرعة: انبعاث الميثان الناتج عن التخمير المعوي وإدارة السماد.
3. مرحلة التصنيع: استهلاك الكهرباء والوقود في البسترة والتبريد والتعبئة.
4. مرحلة النقل والتوزيع: انبعاثات الوقود والطاقة المبردة أثناء الشحن.
تختلف شدة هذه الانبعاثات باختلاف نظم الإنتاج (كثيفة أو رعوية) والموقع الجغرافي ومستوى التقنيات المطبقة.

منهجية تقييم البصمة الكربونية في صناعة الألبان

يعتمد في معظم الدراسات على منهجية تحليل دورة الحياة (Life Cycle Assessment – LCA) باعتبارها المعيار الدولي الأكثر شمولا لتقدير الأثر البيئي للمنتجات الغذائية.
تركز المنهجية على تتبّع الانبعاثات عبر كافة المراحل  من إنتاج الأعلاف وحتى وصول المنتج إلى المستهلك، مع تحديد "حدود النظام" (System Boundaries) ووحدة القياس (Functional Unit) بدقة.

تنقسم الانبعاثات عادة إلى:

• انبعاثات مباشرة: مثل الميثان من التخمّر المعوي وأكسيد النيتروز من السماد.
• انبعاثات غير مباشرة داخل المزرعة: من استهلاك الطاقة والمياه والوقود.
• انبعاثات المراحل اللاحقة: النقل، المعالجة، التعبئة، التخزين.
وتعبر النتائج بوحدة كغ CO₂-eq لكل لتر أو طن من المنتج.
وقد أظهرت دراسات حديثة (Cruz-Rivero et al., 2024; Sustainability) أن التخمر المعوي يمثل نحو 40–50 % من إجمالي الانبعاثات، بينما يشكّل إنتاج الأعلاف 20–30 % منها.
وقد تراوحت البصمة الكربونية للحليب في دراسات عالمية بين 0.9 و1.4 كغ مكافئ CO₂ لكل لتر في كندا ونيوزيلندا والاتحاد الأوروبي، مع تسجيل انخفاضات ملحوظة خلال الأعوام الأخيرة بفضل التحسينات التقنية والإدارية في أنظمة الإنتاج (Dairy Farmers of Canada, 2025).

خطوات حساب البصمة الكربونية في مصانع الألبان

لتحقيق تقييم دقيق ومنهجي، تُتبع الخطوات التالية وفقًا للمعايير الدولية (ISO 14064-1، IDF 520/2022):

1. تحديد الهدف والنطاق (Goal & Scope):

تحديد ما إذا كان التقييم للمزرعة فقط أو للمصنع أو لسلسلة القيمة الكاملة، وتحديد وحدة القياس (مثل "لكل 1000 لتر حليب") وحدود النظام.

2. جمع بيانات النشاط (Activity Data):

تتضمن استهلاك الكهرباء والوقود، كمية الحليب المعالج، استخدام المياه والمواد الكيماوية، والطاقة المستخدمة في التبريد والتعبئة والنقل.

3. تحديد معاملات الانبعاث (Emission Factors):

يتم الرجوع إلى مصادر موثوقة مثل FAO (2024)، IDF (2023)، IPCC  (2021) لتقدير الانبعاث الناتجة عن  )كل وحدة نشاط (مثل كغ CO₂-eq لكل ك.و.س كهرباء أو لتر ديزل.

4. حساب الانبعاثات لكل نشاط:

يتم تقدير كمية الانبعاثات الناتجة عن كل نشاط من أنشطة الإنتاج (مثل استهلاك الكهرباء أو الوقود أو الأعلاف) من خلال ضرب كمية النشاط في معامل الانبعاث المقابل له، وذلك وفقًا للقيم المعتمدة في المراجع الدولية مثل FAO، IDF، وIPCC.
الانبعاثات = كمية النشاط × معامل الانبعاث
5. ثم تحول النتائج إلى أطنان مكافئ ثاني أكسيد الكربون (ton CO₂-eq) لتسهيل المقارنة بين مختلف مصادر الانبعاثات وتحديد أكثرها تأثيرا.

6. تجميع الانبعاثات وتحليل النقاط الساخنة:

تجمع القيم لتحديد إجمالي البصمة الكربونية مع تحديد المراحل الأكثر إسهاما للتركيز على خفضها.

7. التحقق وإعداد التقرير:

توثيق البيانات والمنهجية وإجراء مراجعة داخلية أو خارجية وفق معايير ISO، وإعداد تقرير استدامة سنوي.

8. تصميم خطة تخفيفية:

بناء على النتائج، توضع استراتيجية لتقليل الانبعاثات مثل:
 تحسين كفاءة الطاقة.
 استبدال الوقود الأحفوري بالطاقة الشمسية أو الغاز الحيوي.
 استرجاع الحرارة المهدورة في العمليات الصناعية.

العوامل المؤثرة في البصمة الكربونية للألبان

1. إنتاج الأعلاف وتغذية الحيوانات
2. إدارة السماد والمخلفات
3. استهلاك الطاقة و عمليات التصنيع
4. النقل والتعبئة

التقنيات والاستراتيجيات الحديثة لخفض البصمة الكربونية

1. التربية الذكية مناخيا:
دمج إنترنت الأشياء وأجهزة الاستشعار لمراقبة كفاءة التغذية والمياه وتقليل الفاقد.
2. تحسين العلف:
استخدام مضافات حيوية تقلل الميثان وتحسن كفاءة الهضم.
3. الهضم اللاهوائي وإنتاج الطاقة الحيوية:
تحويل المخلفات إلى غاز حيوي لتوليد الطاقة النظيفة.
4. التحول إلى الطاقة المتجددة:
استخدام الألواح الشمسية وأنظمة استرجاع الحرارة.
5. التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي:
تحليل الانبعاثات في الزمن الحقيقي وتتبع سلسلة الإمداد عبر تقنيات البلوك تشين.
6. المنتجات منخفضة الكربون:
الألبان النباتية الهجينة أو المستخلصة بالزراعة الخلوية.
7. النماذج الاقتصادية التحفيزية:
برامج “الحياد الكربوني” وشهادات “منتجات الألبان الخضراء”.

التحديات والفرص
التحديات:

• نقص البيانات الدقيقة في بعض المناطق النامية.
• الكلفة الأولية العالية للتقنيات الحديثة.
• تفاوت المنهجيات المعيارية في حساب البصمة الكربونية بين الدول.

الفرص:

• دمج تقييم البصمة الكربونية ضمن شهادات الاستدامة والتوريد الأخضر.
• تشجيع التمويل الأخضر للمزارع والشركات منخفضة الانبعاث.
• تطوير سياسات حوافز كربونية مثل دعم وحدات الغاز الحيوي أو نظم الأعلاف المستدامة.
ختاما: تمثل البصمة الكربونية أداة علمية دقيقة لتقييم الأداء البيئي لصناعة الألبان، إذ تتيح فهما شاملًا لمصادر الانبعاثات عبر سلسلة القيمة، وتوجه الجهود نحو إنتاج واستهلاك أكثر استدامة.
إن تبني نهج تحليل دورة الحياة (LCA) مع التحول إلى الطاقة النظيفة والتحسين التقني والابتكار الرقمي يعزز قدرة القطاع على تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والمسؤولية البيئية.
وبذلك يصبح خفض البصمة الكربونية ليس خيارا بيئيا فقط، بل ضرورة استراتيجية لبناء نظام ألبان منخفض الانبعاثات و مستدام يجمع بين الابتكار والمسؤولية المناخية.


د / ناهد عبد المقتدر الوحش
باحث أول بقسم بحوث الألبان - معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية  - مركز البحوث الزراعية
اشترك في قناة اجري نيوز على واتساب اشترك في قناة اجري نيوز على جوجل نيوز
icon

الأكثر قراءة