أ
أ
في ظل ما يشهده العالم من تغيرات متسارعة في أنماط الاستهلاك الغذائي، تحول السكر من مجرد مكون تكميلي إلى "سبب رئيسي مؤرق للصحة العامة". هذا ما أكده الدكتور أسامة الشيخ، الباحث بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، مشددًا على أن ترشيد استهلاك السكر لم يعد خيارًا فرديًا بل أصبح "ضرورة وطنية".
لماذا أصبح ترشيد السكر ضرورة حتمية؟
يشير الدكتور الشيخ إلى أن السكر يدخل في معظم الأغذية والمشروبات التقليدية في مصر، ورغم أهميته الاقتصادية كصناعة استراتيجية تدعم الناتج المحلي وتوفر فرص عمل، إلا أن "الارتفاع المفرط في استهلاكه" يمثل أحد أخطر التحديات الصحية التي تواجه المجتمع المصري. فآثاره السلبية المباشرة واسعة النطاق، وتشمل:تفشي الأمراض المزمنة: مثل السكري والسمنة.
مشاكل صحية أخرى: تسوس الأسنان، وزيادة مستويات الدهون الثلاثية التي تزيد من خطر أمراض القلب.

ضغط هائل على أنظمة الرعاية الصحية: وتراجع جودة الحياة في المجتمعات.
ويعزو "الشيخ" هذه المخاطر إلى عدة عوامل، أهمها:
التغير في نمط الحياة: الاعتماد المتزايد على الوجبات السريعة والمشروبات المحلاة، مما يزيد من استهلاك السكر بشكل غير واعٍ.
قلة النشاط البدني: نمط حياة يتسم بقلة الحركة بسبب التكنولوجيا والعمل المكتبي، يؤدي إلى تراكم السعرات الحرارية من السكر دون حرقها.
السكر الخفي: العديد من المنتجات الغذائية، حتى تلك التي لا تبدو حلوة المذاق مثل الصلصات والزبادي ورقائق الإفطار، تحتوي على كميات كبيرة من السكر المضاف.

إحصائيات صادمة: المصريون يستهلكون السكر بأكثر من ضعف المعدل العالمي
تكشف الإحصائيات أن متوسط استهلاك الفرد للسكر في مصر يتجاوز بكثير الحد الموصى به من قبل منظمة الصحة العالمية، وهو 25 جرامًا يوميًا.هذا الاستهلاك المرتفع يرتبط بانتشار المنتجات المصنعة عالية السكر، خاصة بين الأطفال والشباب. وكنتيجة لذلك، ارتفعت معدلات السمنة بشكل ملحوظ، حيث أظهرت بعض الدراسات أن حوالي 40% من المصريين يعانون من الوزن الزائد أو السمنة، بينما ارتفعت معدلات الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني إلى مستويات مقلقة.
مفارقة اقتصادية ونفسية: "إدمان خفيف" و"تردد تجاري"
يوضح الدكتور الشيخ المفارقة بين كون السكر صناعة حيوية ومنتجًا مؤرقًا عند خروج استهلاكه عن السيطرة. فمن الناحية الاقتصادية، السكر هو أحد أرخص المكونات المستخدمة في الصناعات الغذائية، مما يجعله الخيار المفضل لتعزيز الطعم وزيادة الإقبال على المنتجات بأقل تكلفة.أما استخدام بدائل صحية مثل العسل أو ستيفيا أو سكر جوز الهند، فيكون أعلى تكلفة ويقلل من هامش الربح، وهناك "تردد اقتصادي وتجاري" في التخلي عن السكر خوفًا من فقدان المستهلكين المعتادين على مذاق معين.
ومن المنظور السيكولوجي (النفسي)، يلبي السكر رغبات المستهلكين في الطعم الحلو ويؤثر في مراكز المتعة بالمخ، مما يعزز التعلق النفسي به. ويشير "الشيخ" إلى أن الاعتياد عليه ينشئ ما يشبه "الإدمان الخفيف"، ما يجعل تقليل الحلاوة صعبًا بدون بدائل تدريجية. كما أن الكثير من المستهلكين لا يميزون بين السكر الطبيعي والمضاف، مما يصعب جهود التوعية.

حلول شاملة: "الموازنة الذكية" بين الصناعة والصحة
يؤكد الدكتور الشيخ أن ترشيد استهلاك السكر ليس مجرد قرار صحي فردي، بل هو تطبيق عملي لقيم دينية وثقافية تدعو إلى الاعتدال والوعي الاستهلاكي.ويرى أن حل هذه المعضلة يتطلب فهمًا دقيقًا لتشابك العوامل الاقتصادية، والنفسية، والتجارية، ويحتاج إلى "موازنة ذكية ودقيقة" لاستدامة صناعة السكر والحفاظ على صحة المجتمع دون الإضرار بالصناعة، مع تحقيق الربح ورضا المستهلك. وتتمثل هذه الموازنة في:
تحفيز الإنتاج المسؤول: من خلال استراتيجية صناعية تدريجية لتقليل نسبة السكر في المنتجات دون التأثير المباشر على الطعم، ودعم الأبحاث في مجال المحليات الطبيعية والبدائل الصحية.
تنويع استخدامات السكر في الصناعة: واستثماره في صناعات أخرى مثل الوقود الحيوي أو الصناعات الكيميائية، للحد من الضغط على قطاع الأغذية.
تعزيز ثقافة "المنتج الصحي": بتحويل الوعي الغذائي إلى ميزة تسويقية، حيث أن المستهلك اليوم أكثر وعيًا ومستعد لدفع المزيد مقابل منتج صحي.
سن سياسات تنظيمية ذكية: بدعم حكومي وتشريعي يضمن فرض ضرائب على المنتجات مرتفعة السكر، ووضع حدود لنسب السكر المضاف، ومنح حوافز ضريبية للمنتجات قليلة السكر.
التوعية المجتمعية من منظور وطني: بحملات تثقيفية توازن بين دور صناعة السكر وضرورة تقنين الاستهلاك، ووضع برامج توعية نفسية وتذوقية لتدريب الذوق العام على تقبل مستويات أقل من الحلاوة وتشجيع الأطفال على اعتياد البدائل الطبيعية.
ويختتم "الشيخ" بالتأكيد على أن ترشيد استهلاك السكر هو تحدٍ وطني ومجتمعي يتطلب تعاونًا بين الجهات البحثية، والصحية، والرقابية، والقطاع الصناعي، والمستهلكين أنفسهم. فهو ليس صراعًا بين الاقتصاد والصحة، بل "فرصة لتحقيق التوازن الذكي بين الإنتاج المستدام والاستهلاك الآمن".
