الأحد، 02 جمادى الثانية 1447 ، 23 نوفمبر 2025

د. غادة علي حسن تكتب.. التحديات والحلول: نحو إدارة أكثر استدامة لمخلفات المحاصيل في الدول النامية

11202510202227815597859
د. غادة علي حسن
أ أ
techno seeds
techno seeds
تشكل مخلفات المحاصيل الزراعية، مثل سيقان القمح، وقش الأرز، وبقايا الذرة والقصب موردًا زراعيًا مهمًا غالبًا ما يُنظر إليه على أنه عبء بيئي بدلًا من كونه فرصة اقتصادية.

ففي الدول النامية، تُهدر ملايين الأطنان من هذه المخلفات سنويًا، بينما يمكن أن تتحول إلى مصدر للطاقة أو السماد أو المواد الخام لصناعات متعددة. ومع ذلك، تواجه إدارة هذه المخلفات تحديات كبيرة تتعلق بالوعي، والبنية التحتية، والسياسات الزراعية.

في مصر كل خريف، تشتعل حرائق صغيرة في حقول الدلتا، ويتحوّل الأفق إلى «سحابة سوداء» تخنق القاهرة والبلدات المحيطة بها. رغم أن قش الأرز ومخلفات المحاصيل تعتبر موارد يمكن استغلالها، فإنها تتحول سنويًا في مصر إلى مشكلة بيئية وصحية واقتصادية واسعة النطاق. حوالي 4 ملايين طن من قش الأرز تنتج سنويًا، لكن فقط نحو 20٪ منها يُستخدم في أغراض مثل الأعلاف أو التسميد؛ البقية يُترك في الحقل أو يُحرق، مما يتسبب في ظاهرة “السحابة السوداء” التي تخنق الهواء والبيئة وتزيد تركيزات الجزيئات الدقيقة في الهواء وتفاقم أمراض الجهاز التنفسي؛ إحدى الدراسات الميدانية والتحليلات البيئية قدرت أن حرق قش الأرز يمكن أن يطلق ما يعادل نحو 11 طنًا من ثاني أكسيد الكربون لكل هكتار محروق وهو رقم يوضّح التأثير المناخي المحلي لهذا النشاط.

المشاكل البيئية والصحية والزراعية

- تلوث الهواء والجريمة الصحية: الدراسات التي استخدمت بيانات الأقمار الصناعية وقياسات جودة الهواء أظهرت أن حرق المخلفات يرفع متوسط تركيزات الجزئيات المعلقة PM2.5 و PM10 خلال موسم الحصاد مقارنة بالأوقات العادية. 
- تدهور التربة: الحرق المتكرر يؤدي إلى نقص في الكربون العضوي والتربة تُفقد أجزاء كبيرة من العناصر الغذائية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، مما يقلل من خصوبة التربة على المدى الطويل. 
- انبعاثات غازات دفيئة: إضافة إلى ثاني أكسيد الكربون، ينتج عن الحرق غازات مثل الميثان (CH₄)، وأكسيد النيتروز (N₂O) التي لها قدرة عالية على الاحترار العالمي.

العوامل التي تعيق الحلول

- ضيق الوقت بين الزراعات: غالبًا ما يضطر المزارعون بين قطاف محصول وحرث الحقل أو زراعة الموسم التالي ألا يتركوا وقتًا كافيًا لتحضير المخلفات بشكل مستدام، مما يدفعهم إلى الحرق لأنه أسرع وأقل تكلفة. 
- الكلفة ومحدودية المعدات: استخدام آلات لفرم المخلفات أو لتجميعها يحتاج إلى استثمارات ليست متاحة دائمًا للمزارع الصغيرة.
- ضعف التطبيق والإنفاذ

تحديات قائمة تهدد الاستدامة

- الأساليب التقليدية للتخلص من المخلفات، وعلى رأسها الحرق في الحقول، وهي ممارسة واسعة النطاق في كثير من الدول النامية. ينتج عن ذلك انبعاثات كثيفة من الغازات الملوثة، مثل ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين، ما يسهم في تفاقم التغير المناخي وتدهور جودة الهواء.
- غياب نظم الجمع والمعالجة الفعّالة يجعل من الصعب إعادة تدوير هذه المخلفات أو استخدامها في إنتاج الطاقة الحيوية أو الأعلاف. 
- نقص الوعي لدى المزارعين حول الفوائد الاقتصادية والبيئية لإدارة المخلفات المستدامة يحدّ من تبنّي الممارسات الحديثة.
- تعاني العديد من الدول النامية أيضًا من ضعف التشريعات والدعم الحكومي في هذا المجال، إذ لا تزال السياسات تركز على زيادة الإنتاج الزراعي أكثر من إدارة ما بعد الحصاد.

المبادرات والحلول الملموسة

- تحويل القش إلى Biochar أو سماد مفيد للتربة: في مصر، دراسة بعنوان “Rice straw biochar and NPK minerals for sustainable crop production in arid soils” أظهرت أن إضافة Biochar من قش الأرز إلى التربة جنبًا إلى جنب مع أسمدة NPK حسّن من خصوبة التربة وإنتاجية محصول الذرة والقمح، وذلك في بيئة جافة أراضيها طينية. 
- إنتاج الطاقة الحيوية (البيو-غاز): في الفلبين، تم إطلاق محطة تجريبية تستخدم قش الأرز لإنتاج بيوغاز. المشروع “R2B” (Rice to Biogas) يدمج جمع القش والتكنولوجيا لتوليد الطاقة والسماد. أيضاً ينتج من مخلفات الذرة.
- الطاقة من المخلفات الكبيرة الحجم: في كمبوديا، بحث عن جدوى محطة لتوليد الطاقة بقدرة 10 ميغاوَاط تستخدم قش الأرز كمصدر للكتلة الحيوية، وقد وُجد أن الأمر ممكن فنيًا واقتصاديًا بشرط وجود بنية تحتية مناسبة لتجميع القش. 
- تسعى بعض المنظمات إلى تدريب المزارعين على تقنيات الزراعة المستدامة وإعادة استخدام المخلفات، مثل استخدامها في صناعة الأعلاف الحيوانية أو الألواح الخشبية المضغوطة. كما أن تشجيع الاستثمار في الصناعات القائمة على المخلفات الزراعية يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة ويحفز الاقتصاد الريفي.
- سياسات الحظر مختلطة مع الحوافز: الحكومة المصرية اتبعت مزيجًا من الحظر، والحوافز، وبرامج الشراء، حيث قدمت الدولة في إحدى الحملات حوافز مالية لتجار يشترون قش الأرز من المزارعين (بمبالغ رمزية آنذاك) لتقليل الحرق، كما سجّلت الأجهزة الحكومية حالات حرائق عبر الأقمار الصناعية وأصدرت تحذيرات وغرامات. مبادرات هذه النوعية أظهرت تحسّنًا مؤقتًا في معدلات الحرق في بعض المواسم. 

نحو رؤية مستقبلية خضراء

يتطلب تحقيق إدارة مستدامة لمخلفات المحاصيل في الدول النامية تعاونًا متكاملًا بين الحكومات والقطاع الخاص والمزارعين. فالحلول التقنية وحدها لا تكفي ما لم تدعمها سياسات واضحة، وحوافز مالية، وبرامج توعية فعالة.
إن تحويل هذه المخلفات من مشكلة بيئية إلى فرصة تنموية يمثل خطوة مهمة نحو بناء اقتصاد دائري يحقق الأمن الغذائي ويحافظ على البيئة في آن واحد.

توصيات

إدارة المخلفات الزراعية في الدول النامية، لتكون أكثر استدامة، تحتاج إلى استراتيجية متعددة الأبعاد:
- تعزيز البنى التحتية لتجميع وتحويل المخلفات: مثل بناء محطات بيولوجية وبيوغاز، مصانع للطاقة من الكتلة الحيوية، وتجهيزات لتحويل القش إلى biochar أو سماد عضوي.
- الدعم المالي والتقني للمزارعين الصغار: توفير قروض ميسّرة، تأجير معدات، تدريب فني ممنهج.
- سياسات واضحة وإنفاذ فعّال: الحظر وحده لا يكفي؛ يجب أن يصاحبه مراقبة، عقوبات، وحوافز مُستديمة.
- التوعية والمشاركة المجتمعية: نشر المعرفة حول المخاطر الصحية والبيئية من جهة، والفوائد الاقتصادية من جهة أخرى.
- البحث والتطوير المحلي: لإيجاد حلول تناسب الظروف المناخية والاقتصادية المحلية، أي محاصيل، أي تربة، أي بنية زراعية.

د/ غادة علي حسن 
باحث أول بقسم بحوث تكنولوجيا المحاصيل – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية – مركز البحوث الزراعية 
اشترك في قناة اجري نيوز على واتساب اشترك في قناة اجري نيوز على جوجل نيوز
icon

الأكثر قراءة