الإثنين، 02 رجب 1447 ، 22 ديسمبر 2025

د. فوزي محمد أبودنيا يكتب.. أزمة المياه في مصر من الإهدار لتصحيح المسار

د-Recovered-Recovered-Recovered-Recovered
ا. د. فوزي محمد أبودنيا
أ أ
techno seeds
techno seeds
تعتبر القضية المائية في مصر تحدياً وجودياً يتشكل من تقاطع أزمتين بنيويتين: واحدة داخلية تتعلق بكفاءة الإدارة (أزمة الإهدار)، وأخرى خارجية تتعلق بتغير موازين القوى الإقليمية (أزمة الاختيار). وسوف نتحدث هنا عن خمس محاور هامة في أزمة المياه في مصر تتمثل في الاتي:

–المحور الأول: أزمة الإهدار حيث نخسر كمية هائلة من المياه المتاحة

–المحور الثاني: أزمة الاختيار والصراع على حصص مائية متناقصة

–المحور الثالث: التكامل غير الفاعل في منظومة المياه المصرية يعزز من الأزمة

–المحور الرابع: مراحل التنفيذ في إطار السياسات الرشيدة

–المحور الخامس: تحديات التنفيذ وآفاق المستقبل

المحور الأول: أزمة الإهدار حيث نخسر كمية هائلة من المياه المتاحة


تمثل "أزمة الإهدار"، أو ما يعرف بالفاقد المائي (Non-Revenue Water - NRW)، الجانب الداخلي الأكثر إلحاحاً. إنها ليست مجرد مشكلة تقنية، بل نظام بيئي معقد من الفشل المؤسسي والبنية التحتية القديمة. ويمكننا تصنيف مكونات الخسائر المائية والتي تتألف من ثلاث مكونات متداخلة وفقاً للتقارير الحكومية:

–الفاقد الحقيقي Real Losses ويشمل تسرب المياه من خطوط الأنابيب والخزانات التي تدهورت حالتها بفعل الزمن.

–الفاقد الظاهر Apparent Losses مشاكل إدارية تشمل أخطاء العدادات، والوصلات السرية (الخلسة)، والتهرب من الرسوم.

–الاستهلاك المصرح به وغير المدفوع والذي يتمثل في المياه المستخدمة في صيانة الشبكات أو إطفاء الحرائق.

حجم الإهدار المثير للشفقة في القطاعات الرئيسية


تشير البيانات إلى فجوة كبيرة تضع مصر ضمن أعلى معدلات الفاقد عالمياً:

القطاع المنزلي


حيث يصل معهد الإهدار الى 25% - 34% وتصل الى 80% ، وترجع الأسباب الرئيسية الى تسرب الشبكات، وصلات سرية، قراءات خاطئة. تتمثل التأثيرات الناجمة في زيادة تكاليف الإنتاج، انخفاض جودة الخدمة، خسارة اقتصادية. الخطير في الأمر إن تقدير وصول الفاقد المنزلي إلى 80% يعني أن 8 من كل 10 أمتار مكعبة منتجة تضيع قبل وصولها للمستهلك!

القطاع الصناعي


حيث يصل معدل الإهدار الى 86% ، وترجع الأسباب الرئيسية الى أن الأجهزة قديمة، أنظمة تبريد غير فعالة، غياب تدوير المياه. تتمثل التأثيرات الناجمة في انخفاض كفاءة الإنتاج القومي، ضغط إضافي على الموارد

القطاع الزراعي


حيث يصل معدل الإهدار الى 40% ، وترجع الأسباب الرئيسية الى الري بالغمر، قنوات غير مبطنة (31 ألف كم)، التبخر. تتمثل التأثيرات الناجمة في خسارة الإنتاج الزراعي، زيادة تكاليف التشغيل

الحلول المقترحة لمواجهة نزيف الإهدار


–تحديث البنية التحتية: إعادة تبطين آلاف الكيلومترات من الترع لمنع التسرب.

–التحول الرقمي: تطبيق العدادات الذكية لمحاربة الوصلات السرية.

–الرقابة الصناعية: إلزام المصانع بمعايير إعادة استخدام المياه.

–التغيير الثقافي: نشر تقنيات الري الحديث (التنقيط والرش) كضرورة حتمية وليس مجرد توصية.

المحور الثانى: أزمة الاختيار والصراع على حصص مائية متناقصة


تمثل "أزمة الاختيار" الجانب الخارجي، وهي صراع على الهوية والقوة في ظل تحولات إقليمية جذرية أنهت عصر "الاستحقاق" المصري التاريخي.

1. الحفاظ على حقوقنا الدولية كدولة مصب


تعتمد مصر على الإطار التاريخي لاتفاقيتي 1929 و1959 لضمان حصة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً. ويعتبر بناء سد النهضة الإثيوبي نقطة التحول حيث غير القواعد؛ فإثيوبيا التي تساهم بـ 86% من المياه تراه رمزاً للسيادة، بينما تراه مصر مهدداً وجودياً.

2. الآثار الاستراتيجية لسد النهضة


تشير الدراسات لتقليص الحصص حيث من المحتمل نقص الحصة السنوية بمقدار 25 إلى 33 مليار متر مكعب.

وبالتالي سوف يتأثر الأمن الغذائي ومن المتوقع ارتفاع الواردات الغذائية من 55% إلى75% . بالإضافة الى خطر زيادة البطالة في القطاع الزراعي (الذي يضم 25% من القوى العاملة) لمستويات كارثية.

علاوة على ذلك حدوث التوترات الدبلوماسية حيث إن أحداث الفيضانات المبكرة والاتهامات بـ "المياه العشوائية" تعكس غياب اتفاق قانوني ملزم.

3. مسارات السياسة الرشيدة والتي تمثل خارطة الطريق


تتجه الدولة نحو ثلاثة محاور استراتيجية لتقليل الاعتماد على النيل:

–العمل على تطوير موارد جديدة: محطات التحلية (مثل محطة الضبعة) بهدف الوصول لـ 4 مليون م³ يومياً بحلول 2030.

–تعزيز إعادة الاستخدام: تطوير معالجة مياه الصرف إلى المرحلة "الثلاثية" لتكون آمنة زراعياً.

–العمل على ترشيد الاستخدام: التحول للري الحديث الذي يوفر 50% من المياه ويزيد الإنتاجية بنسبة 30%.

المحور الثالث: التكامل غير الفاعل في منظومة المياه المصرية يعزز من الأزمة


الى الآن فان الأزمة المصرية ليست نقصاً مطلقاً في المياه، بل هي نقص في الكفاءة. الإهدار الداخلي يضاعف التهديد الخارجي في حلقة مفرغة.  حيث انه مع فاقد داخلي (20.4 مليار م³) وخسارة خارجية محتملة (30 مليار م³)، تصبح الفجوة الكلية 50.4 مليار متر مكعب سنوياً. لذا يعتبر الإصلاح أول نقاط الاختيار لخفض تهديد "الندرة المطلقة" (أقل من 500 م³/شخص) وهو ما يولد الإرادة السياسية الآن لإصلاح شبكات متهالكة كانت مهملة لسنوات.

المحور الرابع: مراحل التنفيذ في إطار السياسات الرشيدة


السياسة الرشيدة للإصلاح الحقيقي تتمثل في ثلاث مراحل كما يلي:

مرحلة الاستجابة الطارئة:

وتتمثل أهدافها الأساسية في تحقيق وفورات سريعة كما تتمثل الإجراءات الفاعلة لتحقيق اطر السياسة الرشيدة في إصلاح نقاط التسرب الكبرى، دعم الري بالتنقيط للمحاصيل الربحية.

مرحلة التحديث الهيكلي:

وتتمثل أهدافها الأساسية في إصلاح البنية الأساسية، كما تتمثل الإجراءات الفاعلة لتحقيق اطر السياسة الرشيدة في التبطين القومي للترع، تحديث شبكات مياه المدن المكتظة.

مرحلة التحول الاستراتيجي:

حيث تتمثل أهدافها الأساسية في تنويع المصادر الخاصة بالمياه، كما تتمثل الإجراءات الفاعلة لتحقيق اطر السياسة الرشيدة في تحويل 4 ملايين فدان للري الحديث، الوصول لـ 4 مليون م³/يوم تحلية.

المحور الخامس: تحديات التنفيذ وآفاق المستقبل


تحويل الرؤية إلى واقع يصطدم بثلاثة عوائق هيكلية تتمثل في الاتي:

–التحدي التمويلي: الخطة الوطنية (2017-2037) تتطلب نحو 900 مليار جنيه (55 مليار دولار) لسد الفجوة.

–التحدي المؤسسي: الحاجة لإصلاح البيروقراطية، تدريب الكوادر، وضمان الشفافية والمساءلة.

–القبول الاجتماعي: تغيير ثقافة الفلاح التقليدي من "الري بالغمر" إلى التقنيات الحديثة، وتوعية المواطنين بأهمية المياه المعالجة.

وفى النهاية يجب أن ندرك إن الانتقال من ثقافة "الاستحقاق التاريخي" إلى ثقافة "الإدارة المستدامة" هو القرار الاستراتيجي الأهم. الحل ليس في البحث عن ماء إضافي فقط، بل في الحد الأقصى من الكفاءة والحد الأقصى من الإبداع في تنويع المصادر وبناء شراكات إقليمية قائمة على تبادل البيانات والثقة.

ا. د. فوزي محمد أبودنيا
مدير معهد بحوث الإنتاج الحيواني الأسبق
اشترك في قناة اجري نيوز على واتساب اشترك في قناة اجري نيوز على جوجل نيوز
icon

الأكثر قراءة