الجمعة، 04 ربيع الثاني 1447 ، 26 سبتمبر 2025

ا.د. علاء عزوز يكتب .. الغابات الشجرية .. رئة الأرض وكنز مصر الأخضر نحو التنمية المستدامة

للللللللللللبق
ا.د. علاء عزوز يكتب .. الغابات الشجرية .. رئة الأرض وكنز مصر الأخضر نحو التنمية المستدامة
أ أ
techno seeds
techno seeds
تُعد الغابات بمختلف أنماطها إحدى الركائز الأساسية للحياة على سطح الأرض، فهي ليست مجرد مساحات خضراء فحسب، بل تمثل "رئة العالم" التي تساهم في موازنة المناخ العالمي، وتنقية الهواء من الملوثات، وحماية التربة من التدهور، والحفاظ على الموارد المائية، إضافة إلى كونها بيئة طبيعية تحتضن ملايين الأنواع من الكائنات الحية.
وفي ظل ما يشهده العالم من تحديات بيئية متسارعة مثل تغيّر المناخ، وتفاقم التصحر، وندرة المياه، وارتفاع الطلب على الموارد الطبيعية، أصبحت الغابات خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه لضمان التوازن بين حماية البيئة وتعزيز الاقتصاد. وقد أصبحت السياسات الحديثة للتنمية المستدامة تعتمد على الغابات كحلول قائمة على الطبيعة (Nature-based Solutions) تُوظّف لإعادة التوازن بين احتياجات البشر والأنظمة البيئية.
الغابات.. أهمية بيئية واقتصادية متكاملة


تضطلع الغابات الطبيعية والشجرية بأدوار محورية، يمكن تفصيلها على النحو الآتي:
مكافحة تغيّر المناخ: امتصاص كميات ضخمة من غاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه في الكتلة الحيوية والتربة، مقابل إطلاق الأكسجين النقي.
تلطيف المناخ المحلي: المساهمة في خفض درجات الحرارة، والحد من تلوث الهواء والضوضاء، والتقليل من آثار موجات الحر والجفاف.
حماية التربة والمياه: تثبيت التربة والحد من التعرية والانجراف، والمساهمة في دورة المياه الطبيعية، والحفاظ على مصادر المياه السطحية والجوفية.
التنوع البيولوجي: توفير بيئات طبيعية تحتضن ملايين الأنواع من الكائنات الحية النباتية والحيوانية، بما يضمن استمرار التوازن البيئي.
دعم الإنسان والمجتمع: إنتاج الأخشاب والزيوت والثمار الطبية والعطرية، وتوفير موارد طبيعية للأدوية، وتوليد فرص عمل تسهم في تحسين سبل معيشة المجتمعات المحلية.
وبذلك، يمكن القول إن الغابات ليست مجرد تجمعات شجرية، بل منظومة بيئية – اقتصادية – اجتماعية متكاملة، تمثل ركيزة أساسية في الانتقال نحو الاقتصاد الأخضر والتنمية منخفضة الكربون.
التجربة المصرية.. الغابات الشجرية كحل مبتكر
منذ عدة عقود، تبنّت مصر خيارًا مبتكرًا لمواجهة تحديات ندرة المياه وزحف التصحر، عبر إنشاء غابات شجرية تعتمد على مياه الصرف الصحي المعالج في ري الأشجار. واليوم، تمتد هذه التجربة إلى ما يقارب 60 غابة شجرية موزعة على عدد من المحافظات، خاصة في البيئات الصحراوية والجافة مثل أسوان، سوهاج، الأقصر، والإسماعيلية.


وتشمل هذه الغابات زراعة أنواع متعددة من الأشجار ذات القيمة الاقتصادية والبيئية العالية مثل: الكافور، الكايا، الكازورينا، الجاتروفا، والجوجوبا، والتي تُستخدم منتجاتها في صناعات الأخشاب والزيوت الحيوية والوقود الحيوي.
وقد حققت مصر من خلال هذا النموذج معادلة دقيقة تقوم على:
حماية البيئة عبر إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالج.
تحقيق جدوى اقتصادية عبر إنتاج منتجات خشبية وزيوت حيوية قابلة للتسويق.
مكافحة التصحر وتحويل الصحاري القاحلة إلى مساحات خضراء مثمرة.
توسيع الرقعة الخضراء بما يرفع نصيب الفرد من المساحات المزروعة.
شهادات الكربون.. آفاق اقتصادية واعدة
مع التوسع العالمي في أسواق الكربون، تفتح الغابات الشجرية في مصر مجالًا اقتصاديًا جديدًا، إذ يمكن توثيق الكميات الممتصة من ثاني أكسيد الكربون وتحويلها إلى شهادات كربون قابلة للتداول والاستثمار.
ويمثل هذا التوجه مورداً اقتصادياً واعداً من خلال:
* توفير منتج اقتصادي جديد يسهم في زيادة الدخل القومي.
* جذب الاستثمارات الخضراء وتمويل المشروعات المستدامة.
* تعزيز مكانة مصر الدولية في الالتزام بخفض الانبعاثات الكربونية.
* دعم انتقال مصر نحو الاقتصاد الدائري منخفض الانبعاثات.


المبادرات الوطنية والدولية
تتكامل تجربة الغابات الشجرية مع عدد من المبادرات الوطنية والدولية الكبرى، من أبرزها:
* المبادرة الرئاسية لزراعة 100 مليون شجرة: أكبر مشروع تشجير في تاريخ مصر، يهدف إلى زيادة نصيب الفرد من المساحات الخضراء، وخفض نسب التلوث، وتحسين الصحة العامة.
* مبادرة "حياة كريمة": الذي يخصص مساحات للتشجير ضمن خطط التنمية الريفية المستدامة.
* التوافق مع الاتفاقيات الدولية: وعلى رأسها اتفاق باريس للمناخ، وأهداف التنمية المستدامة 2030، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD).
* المشاركة الدولية: في مبادرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) لدعم الاقتصاد الدائري وتوسيع نطاق الحزام الأخضر.
التحديات القائمة
رغم النجاحات المتحققة، لا تزال الغابات سواء الطبيعية أو الشجرية تواجه جملة من التحديات، من أبرزها:
* إزالة الغابات التقليدية على المستوى العالمي نتيجة التوسع العمراني والزراعي غير المنظم.
* تكرار حرائق الغابات نتيجة التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة.
* التأثيرات السلبية للتلوث البيئي التي تعيق النمو الطبيعي للأشجار.
* صعوبات تمويل مشروعات التشجير على نطاق واسع وضمان استدامتها.
* الحاجة إلى رفع الوعي البيئي لدى المجتمعات المحلية بأهمية حماية الغابات.
الارتباط بالاستراتيجيات الوطنية
تأتي مشروعات الغابات الشجرية في مصر متسقة مع استراتيجية التنمية الزراعية المستدامة المحدثة 2030، التي تستهدف الاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية، وتعزيز الأمن الغذائي، والتوسع في الحلول الزراعية الصديقة للبيئة. كما تنسجم مع رؤية مصر 2030 التي وضعت البعد البيئي كأحد محاورها الرئيسية لضمان التنمية الشاملة والمستدامة، حيث تمثل الغابات الشجرية نموذجًا عمليًا يجسد التكامل بين حماية البيئة، وتحقيق النمو الاقتصادي، والارتقاء بجودة حياة المواطن.
نحو نموذج إقليمي رائد
لم تعد الغابات الشجرية في مصر مجرد مشروعات بيئية محدودة النطاق، بل غدت أداة استراتيجية شاملة للتنمية المستدامة، حيث تجمع بين إعادة استخدام المياه، وزيادة الرقعة الخضراء، وتوليد فرص اقتصادية عبر منتجات خشبية وزيوت حيوية، فضلاً عن دخولها مجال شهادات الكربون والمبادرات الوطنية والدولية.
إن الغابات الشجرية تمثل اليوم أحد المسارات المستقبلية التي تتقاطع فيها البيئة مع الاقتصاد والمجتمع، وهو ما يجعل مصر في طليعة الدول التي تستثمر في الغد من خلال استدامة اليوم.
إنها بحق كنز أخضر يقود مصر نحو مستقبل أكثر استدامة ويمنحها موقعًا رياديًا إقليميًا وعالميًا في مجالات التكيف مع التغيرات المناخية، وحماية البيئة، وتحقيق النمو الاقتصادي المتوازن.
بقلم:
ا.د/ علاء عزوز
 رئيس قطاع الإرشاد الزراعي ـ وزارة الزراعة 
اشترك في قناة اجري نيوز على واتساب اشترك في قناة اجري نيوز على جوجل نيوز
icon

الأكثر قراءة