الجمعة، 24 شوال 1445 ، 03 مايو 2024

المحررين

من نحن

اتصل بنا

د.فوزي أبودنيا يكتب .. تناقص البصمة المائية والآثار البيئية لإنتاج لحوم الأبقار

فوزي ابو دنيا
الدكتور فوزي محمد أبودنيا ، المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث
أ أ
الماء ضروري بالفعل لإنتاج لحوم الأبقار، ولكن خلال 2.5 مليون سنة منذ أن بدأ أسلافنا في تناول اللحوم، لم نفقد قطرة واحدة بعد. تشير التقديرات إلى أن الرحلة لمصدر البروتين الحيواني من المزرعة إلى الطبق يتطلب حوالي 15944 لترًا لكل كيلوجرام من الماء للحصول عليها من لحوم الأبقار إلى المائدة، وذلك استنادًا إلى أحدث العلوم والحسابات المكثفة لمجموعة واسعة من العوامل الخاصة باستهلاك المياه بواسطة الماشية.  وهذا ما يُعرف باسم "البصمة المائية" لإنتاج لحوم الأبقار.



 قد يبدو هذا الرقم كثيرًا، لكن في الحقيقة فإنه لا يهم نوع المحصول أو الحيوان الذي يتم ينتج؛ لكن المهم في الأساس هو إنتاج الغذاء والذي يتطلب الماء. في بعض الأحيان قد يبدو الأمر للبعض وكأنه استنزاف لكمية كبيرة من المياه، لكن المياه المستخدمة لإنتاج محاصيل العلف أو الماشية ومنتجاتها لا تُفقد، بل يتم إعادة تدوير المياه – في بعض الأحيان يكون ذلك من خلال عملية بيولوجية معقدة للغاية – ثم تعود لاستخدامها مرة أخرى. ولابد أن نعرف أن متطلبات المياه تختلف باختلاف حجم الحيوان ودرجة الحرارة، ونوع وكمية إنتاجه.


لكن في المتوسط، تشرب الأبقار التي يبلغ وزنها 567 كجم حوالي 38 لترًا من الماء يوميًا للقيام بوظيفته الطبيعية للتمثيل الغذائي. مقارنة باستخدامات الشخص العادي يعتبر هذا أمر معقول جدًا حيث يستخدم الإنسان حوالي 223 لترًا يوميًا للاستهلاك والنظافة.  ووفقًا لأحدث بيانات الإحصاء، يبلغ الاستخدام المنزلي والصناعي المشترك للمياه حوالي 15.4 مليار متر مكعب سنويًا في مصر حيث إن مياه الشرب تتطلب 10 مليار متر مكعب في السنة والتي من المتوقع أن يرتفع إلى 13 مليار متر مكعب بحلول عام2025 .

فيما تشير الإحصاءات المحلية أيضا الى أن المياه السطحية توفر ما يقرب من 83٪ من إجمالي احتياجات مياه الشرب الآمنة، بينما تلبي المياه الجوفية النسبة المتبقية البالغة 17٪. في حين يستخدم القطاع الصناعي ما مقداره 5.4 مليار متر مكعب من المياه سنويًا وذلك وفقًا لبيانات وزارة الموارد المائية والري عام 2017.  وبالتالي نعتبر نحن البشر مجموعة مستهلكة للمياه.


الباحثون في كندا أنه في عام 2011، تم استخدام مياه أقل بنسبة 17٪ في إنتاج كل وحدة من لحوم الأبقار عما كانت عليه قبل 30 عامًا. هذا الأمر صاحبة خفض أعداد تربية الماشية بنسبة 29%، وبالتالي انخفض عدد الماشية التي يتم إنتاجها سنويا بنسبة 27%، وصاحب ذلك انخفاض الأراضي المزروعة بالأعلاف بنسبة 24%، وبالتابعية انخفض إنتاج الغازات الدفيئة بنسبة 15% لإنتاج كل كيلوجرام من اللحوم في عام 2011 مقارنة بعام 1981.


ولكن بالعودة إلى صناعة لحوم الأبقار – فنجد انه غالبًا ما يتم استهداف الزراعة بشكل عام ومنتجي لحوم الأبقار على وجه التحديد وذلك باعتبارهم أعلا استهلاكا، بل وحتى "يهدرون" المياه، مما يؤثر سلبًا على البيئة، ومع ذلك، هناك الكثير في هذه القصة - فالأمر ليس بهذه البساطة حيث يتم استخدام15.944  لترًا من المياه  لكل كيلوجرام يتم إنتاجه من لحوم الأبقار ويكون صالح للأكل.

إذا كان حيوان الأبقار نفسه يحتاج فقط إلى حوالي38 لتر من الماء يوميًا ليقوم بوظائفه، فما الذي يمثله بقية الماء (البصمة) المطلوبة لشريحة اللحم التي تبلغ وزنها 100جم؟ أو كجم مثلا. في كثير من الأحيان، من خلال المصطلحات البحثية، يتم تقسيم المياه المقاسة في إجمالي البصمة المائية إلى ثلاث فئات من الألوان، وتتضمن البصمة تقديرًا لكمية المياه السطحية والجوفية (الزرقاء) المستخدمة لسقي الماشية، وصنع الأسمدة، وري المراعي والمحاصيل، ومعالجة لحوم الأبقار، وما إلى ذلك.


ثم هناك قياس لكمية الأمطار (الخضراء) التي تسقطها الشلالات على المراعي ومحاصيل الأعلاف، وأخيرًا مقدار مياه الصرف الزراعي والمصارف الأرضية لمحاصيل الأعلاف والمراعي وعمليات تربية الماشية (المياه الرمادية) وهي تأخذ اسمها من اللون الرمادي الذي تؤول إليه بعد الركود وتتميز هذه المياه بأنها لا تحتوي على مواد عضوية. إن إضافة هذه الأرقام الزرقاء والخضراء والرمادية للماشية المنتجة في جميع أنحاء العالم تنتج "بصمة مائية" عالمية للحوم الأبقار.   ومن الجدير بالذكر أن أكثر من 95% من المياه المستخدمة في إنتاج لحوم الأبقار بالمناطق الرعوية هي مياه خضراء، حيث تهطل الأمطار والثلوج سواء كانت الماشية في المراعي أم لا، ومن المهم أن نتذكر أن كل المياه المستخدمة بطريقة أو بأخرى يتم إعادة تدويرها.


إذا نظرت إلى دورة حياة الأبقار منذ ولادتها وحتى تناول البرجر، فإن15.944  لترًا ماء تستخدم لإنتاج كيلوجرام لحم وهى تمثل المياه اللازمة لنمو العلف الذي سيأكله في المراعي وللتبن والحبوب والأعلاف الأخرى، للوصول الى وزن السوق. كما أنه يتضمن أيضًا المياه المستخدمة في المعالجة والتعبئة اللازمة في قطع البيع بالتجزئة وتجهيز أحجام الأجزاء للمستهلك، حيث أن كل خطوة تتطلب الماء.

وكنتيجة لتركيز النظر على كمية المياه المستهلكة لإنتاج كيلوجرام من اللحوم وبما أن الهدف هو إنتاج البروتين، ظهرت وجهة نظر تسأل، ألا يمكننا زراعة المزيد من محاصيل البقول مثل الفول والفاصوليا والعدس والحمص وتكثيف الاستمرار في إنتاج البروتين النباتي لتلبية متطلبات البروتين؟ واستخدام كميات أقل من المياه وإفادة البيئة؟ دعونا نلقي نظرة على سبب عدم صحة هذه النظرية.

الماء مجرد جزء من منظومة زراعية كبيرة


بادئ ذي بدء، سواء كان محصولًا موسميا (مثل القمح أو الكانولا أو الفاصوليا ...الخ) أو نوعًا من أنواع محاصيل العلف الموسمي أو الدائم (مثل البرسيم المصري أو التربتيكال وهى محاصيل متعددة الحشات لكنها موسمية الزراعة، بينما البرسيم الحجازي أو الجوار أو البونيكام وهى محاصيل معمرة تظل اكثر من العامين في الأرض) الذي تستهلكه الماشية، فإن جميع المحاصيل تحتاج إلى المياه لتنمو). وبالتالي عندما نتحدث عن المحاصيل المختلفة، فمن المهم أن نلاحظ أن هناك نوعين رئيسيين. معظم المحاصيل الحقلية مثل القمح والشعير والفاصوليا هي نباتات موسمية يتم زراعتها بشكل عام في موسم محدد، ويتم حصادها في نهاية الموسم.


بينما معظم محاصيل المراعي وكثير من محاصيل الأعلاف المستأنسة تعتبر نباتات دائمة أو معمرة، حيث أن بعض أنواع النباتات المحلية أو الطبيعية تعيش لمدى طويل مثل علف الفيل والجوار والبرسيم الحجازي والأشجار والشجيرات العلفية وغيرها الكثير، حيث تظل منتجة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات على الأقل، وفي كثير من الأحيان لمدة سنوات عديدة قبل أن تحتاج إلى إعادة زرعتها. وفى الواقع تعتبر كل من المحاصيل الحولية والأعلاف المعمرة مهمة في الزراعة الحيوانية. ولكن عندما يتساءل الناس لماذا لا ننتج المزيد من البروتين النباتي عن طريق زراعة المزيد من الفول والفاصوليا والعدس، فإن الأمر لا يتعلق فقط باستبدال كل فدان من المراعي للحصول على إنتاج فدان من الفاصوليا. إنها مسألة استغلال نقاط القوة لديك – لذا وجب التعرف على إمكانات الأرض لتحقيق أفضل غرض مقصود لها.


تستخدم المحاصيل البقولية (مثل الفول والفاصوليا والعدس) كمية أكبر من المياه مقارنة بالأعشاب العلفية. فبالنسبة لإنتاج الفاصوليا الجافة، على سبيل المثال، يحتاج الأمر حوالي 20-40 م3 من الماء لزراعة فدان من الأرض، إلا انه عند استخدام حبوب البقوليات يجب نقعها طوال الليل أو غليها في كمية من المياه أضعاف وزنها للتغلب على المواد المضادة للتغذية بها، علاوة على هذا يحدث فقد للعديد من العناصر.  وبمقارنة ذلك بإجمالي إنتاج لحوم الأبقار ومساحة الأراضي الزراعية المزروعة بالأعلاف الخضراء والأعلاف المركزة الأخرى لقطعان الماشية فنجد أن الفدان يحتاج فيها الى 8 -9 م3، حيث تستهلك الأعلاف كاملة إلا أن الذرة والنباتات الزيتية لإنتاج الإكساب فان الناتج منها من اكساب وكذا عروش المحصول هي مخلفات أعيد استخدمها في تغذية الحيوان للاستفادة منها وان المياه المستهلكة في زراعة تلك النباتات كانت مقابل الحبوب أو الزيوت الناتجة. كما أنه لا يعني بالضرورة أن كل فدان يتم تربية الماشية عليه يكون مناسب لإنتاج المحاصيل. حيث تشير مقارنات التقارير في هذا الشأن الى أن الفاصوليا الجافة تحتاج إلى أكثر من خمسة أضعاف كمية المياه لكل فدان عند مقارنتها بالأعلاف الخضراء.


حيث لا تتلقى الكثير من الأراضي المستخدمة لزراعة العلف للماشية مياه كافية أو تتمتع بظروف التربة المناسبة لدعم إنتاج المحاصيل، ولكنها يمكن أن تنتج أنواعًا من الأعلاف الذي يمكن أن تنمو في الظروف الأكثر جفافًا.

للأبقار دورًا متنوعًا ومهما في البيئة


في الحقيقة أن الأبقار كانت لآلاف وآلاف السنين، عبارة عن قطعان تتجول في جميع أنحاء المعمورة، تأكل العلف وتودع العناصر الغذائية (السماد) مرة أخرى في التربة وتعيش في وئام بيئي مع الآلاف من الأنواع النباتية والحيوانية.  واليوم، لا يمكن للملايين من رؤوس الأبقار التي يتم تربيتها في المزارع أن تكرر هذا النظام الطبيعي، ولكن عندما تتم إدارتها بشكل صحيح فإنها تقدم مساهمة قيمة للبيئة تمامًا كما كانت تفعل الحيوانات قديما. تساعد أبقار اللحم بالمراعي والتي تستخدم في الحفاظ على النظم الإيكولوجية للأراضي العشبية الطبيعية (والتي تتقلص حاليا) من خلال توفير التنوع البيولوجي للنباتات والموائل للطيور المهاجرة خاصة الأنواع المهددة بالانقراض، بالإضافة إلى كون تلك المراعي موطن لمجموعة كبيرة من أنواع الكائنات المتنوعة. كما تفيد أنظمة الرعي المُدارة بشكل صحيح في الحفاظ على الأراضي الرطبة، في حين يساعد تنوع النباتات على احتجاز وتخزين الكربون من الهواء الموجود في التربة.

الأبقار ودورها في مناطق المرعى والمناطق المطيرة

تمثل الأعلاف (المراعي والمحصودة والخشنة) حوالي 80 بالمائة من العلف الذي تستخدمه الأبقار وهو ما يقرب من ثلث (31 %) من الأراضي الزراعية في الدول التي يكثر بها المراعي. هذه الأرض ليست بالضرورة مناسبة لإنتاج المحاصيل الموسمية أو الحولية، ولكنها يمكن أن تنمو فيها الأعشاب الذي يحتاج إليها رعي الحيوانات ليظل ينمو وينتج.  بعض قطعان الأبقار في البراري لبعض الدول تكون معرضة للجفاف، ويكون مواسم النمو في قصير جدًا بالنسبة للعديد من المحاصيل. بينما في بعض المناطق الأخرى عادةً ما يكون هطول الأمطار أعلى فنجد بالتالي مواسم نمو أطول لحشائش البراري، ولكن ليست كل هذه الأراضي الزراعية مناسبة لإنتاج المحاصيل أيضًا. علاوة على أن الكثير من هذه الأراضي تكون مستنقعية أو صخرية أو كثيفة جدًا بحيث لا تسمح بالزراعة، ولكن يمكن أن تنمو فيها الأعشاب التي تعيش عليه الماشية معظم حياتها. على الجانب الآخر تحتوي الأعشاب ونباتات المراعي على ألياف لا يستطيع الإنسان هضمها، لكن الماشية لديها مجموعة ميكروبية متخصصة في معدتها (الكرش) تسمح لها بهضم الألياف والاستفادة من العناصر الغذائية وتحويلها إلى بروتين عالي الجودة يمكن للإنسان أن يهضمه. وبالتالي يتيح لنا تربية أبقار اللحم إنتاج بروتين مغذي على أرض غير مناسبة بيئيًا أو مناخيًا للزراعة وإنتاج المحاصيل.



دورة المياه وعلاقتها بالإنتاج الزراعي



مجرد التركيز على استخدام المياه لكل كجم من المنتج فان هذا يتجاهل دورة المياه، حيث إن دورة المياه مهمة - فالبشر والقمح والذرة والعدس والدواجن والبيض والحليب والأعلاف وإنتاج لحوم الأبقار كلها تستخدم المياه، لكنها فى حقيقة الأمر لا تستخدمها. إنها ليست إسفنجات تمتص الماء إلى ما لا نهاية. تقريبًا كل المياه التي يستهلكها الناس أو الماشية تنتهي في البيئة من خلال السماد أو العرق أو بخار الماء. نحن نعلم أن معظم المياه التي تستهلكها النباتات من التربة تعود إلى الهواء. وكما هو الحال مع مياه المدينة، تتم معالجة المياه التي تخرجها مرافق معالجة لحوم الأبقار عند أحد طرفي المجزر أو المصنع وتعود لإعادة استخدمها في الطرف الآخر مرة أخرى. حيث أصبح من الممكن للتقنيات الجديدة إعادة تدوير المياه وإعادة استخدامها أن تقلل من كمية المياه اللازمة لتجهيز لحوم الأبقار بنسبة 90 بالمائة.


دور المراعي وزراعة المحاصيل في تخزين كربون الغازات الدفيئة وحماية التربة

تساعد النباتات – المراعي والأراضي العشبية، وكل المحاصيل حقًا – على احتجاز الكربون وتخزينه. تقوم النباتات بإخراج ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وتدمج الكربون في جذورها وسيقانها وأوراقها وأزهارها وبذورها، وتطلق الأكسجين مرة أخرى إلى الغلاف الجوي. نظرًا لأن النباتات المعمرة (معظم المراعي والمحاصيل المعمرة) تعيش لسنوات عديدة، فإنها تطور نظامًا جذريًا واسع النطاق والذي سوف يتحلل في النهاية ويصبح جزءًا من كربون التربة. ونظرًا لأن هذه المراعي الدائمة أو المعمرة لا تتم زراعتها وإعادة زرعها كل عام، فإن الكربون الذي تحتجزه هذه النباتات يبقى في التربة بدلاً من إطلاقه مرة أخرى إلى الغلاف الجوي. ونتيجة لذلك، فقد وثقت العديد من الدراسات أن الأراضي العشبية، التي تظل صحية لرعي الماشية، تحتوي على كميات أكبر من الكربون المخزن في التربة مقارنة بالأراضي المجاورة التي بها محاصيل منزرعة.


عندما تتم زراعة الأرض لإنتاج محاصيل موسمية مثل القمح والشعير والكانولا والفول والفاصوليا والعدس، يؤدي اضطراب التربة نتيجة الحرث لإطلاق الكربون الموجود في التربة إلى الغلاف الجوي، كما أن هناك أيضا خطر أخر لعدم وجود الغطاء النباتي يتمثل في تآكل التربة. في بعض البلدان التي تعدت على البراري لإنتاج المحاصيل ونظرًا لعدم معرفتهم جيدًا بتأثير حرث الحقول، حدثت خسائر فادحة في جميع البراري المنتهكة. حيث تؤدى الزراعة إلى فقدان 40-50 % من الكربون العضوي من تربة البراري في بعض المناطق في حين وصلت النسبة في مناطق أخرى الى 60-70 % من التربة. لذا يجب أن نتعلم من تلك الأخطاء، ففي هذه الأيام، تتم زراعة معظم المحاصيل الموسمية في كثير من البلدان في ظل أنظمة زراعة قليلة الحرث أو بدون حرث - حيث يتم زرع المحاصيل بأقل قدر من الاضطراب في التربة. وعلى عكس الأسمدة التجارية، فإن استخدام روث الماشية يعمل أيضًا على تجديد المواد العضوية في التربة. لم تدمر زراعة المحاصيل في الأراضي بشكل متكرر بسبب التآكل فحسب، بل أيضًا بسبب الجفاف وأوبئة الحشرات. إن الحفاظ على الأراضي العشبية الدائمة والمراعي المعمرة يقلل بشكل كبير من خطر فقدان التربة بسبب تآكل الرياح والمياه، كما يحافظ على الكربون المخزن في التربة. النقطة المهمة هي أن الماشية تتمتع بمكانة ممتازة في الأراضي الزراعية المنتجة التي لا تناسب إنتاج المحاصيل الموسمية.



علاقة المياه وزراعة المحاصيل بتحسن صحة التربة


بالعودة إلى موضوع المياه، وبصرف النظر عن الفوائد المذكورة سابقًا، فإن هذه الأراضي العشبية الدائمة والمراعي المعمرة تساعد في الواقع على الحفاظ على المياه من الفقد حيث تساعد الجذور والمواد النباتية على تحسين بنية التربة وتساعد على ذوبان الأمطار والثلوج عبر التربة، وهذا ما يعرف بتسريب المياه. كقاعدة عامة، عندما تُترك الأراضي دون حرث، فإن 10% فقط من الأمطار تتدفق خارج الأرض، ويتبخر 40%، ويتسرب 50% إلى التربة ليدخل إلى احتياطيات المياه الجوفية الضحلة والعميقة، بينما عندما تضطرب التربة، يتم تقليل تسرب المياه.


ليست الجذور الميتة فقط هي التي توفر فوائد بيئية، بل نظرًا لعدم زراعة الأعلاف المعمرة، وغالبًا ما تنمو في ظروف جافة، فإنها تنمو أنظمة جذرية واسعة النطاق في بحثها عن المياه. مثال على أحد الأنواع النباتية الهامة هو نباتات العائلة البقولية حيث يوجد أنواع منها فى المراعي وتعطى عشب ممتاز مرتفع القيمة الغذائية، وتعرف باسم البقوليات العلفية ومعظمها معمر. ولكن هناك فرع آخر كامل من عائلة البقوليات يستهلكه الإنسان على مائدة الطعام. وتعرف هذه البقوليات بمحاصيل البقوليات والتي تشمل الفول والفاصوليا والعدس والحمص. تُستخدم معظم محاصيل البقول الموسمية كغذاء للإنسان، ولكن حتى هذه تنتج منتجات ثانوية (مثل العروش والقرون والبذور الذابلة وما إلى ذلك) غير صالحة للاستهلاك الأدمي ولكن يمكن للماشية أن تحولها إلى بروتين مغذي عالي الجودة.

الأمر المثير للاهتمام بشأن البقوليات هو مدى استفادتها من التربة، على سبيل المثال، تقوم البقوليات العلفية مثل البرسيم بتطوير جذور تخترق التربة بنسبة 53 إلى 63 % أعمق من الحمص والعدس ومحاصيل البقول الأخرى. تتمتع جميع البقوليات أيضًا بقدرة طبيعية على إنتاج عنصر غذائي مهم في التربة يُعرف بالنيتروجين. أيضا يمكن لجميع البقوليات "تثبيت" أو التقاط النيتروجين من الهواء وتحويله إلى نيتروجين التربة الذي يمكن أن يحسن خصوبة التربة.. يمكن للبقوليات العلفية تثبيت ما يصل إلى ضعف كمية النيتروجين لكل فدان في التربة مثل محصول البقوليات الموسمي. أضف الى ذلك تستفيد الأراضي المعرضة للفيضانات الدورية أو الجفاف من الغطاء النباتي الدائم الذي توفره الأعلاف. تحافظ الجذور والنباتات على التربة في مكانها حتى لا تتآكل أو تجرفها الفيضان أو تهب أثناء الجفاف.

مرة أخرى، عندما نطرح السؤال، لماذا لا نزرع المزيد من المحاصيل الموسمية، تذكر أن الماشية والتربة ليست الكائنات الحية الوحيدة التي تتأثر عندما يتم تحويل أراضي المراعي العشبية إلى أراضٍ زراعية.  توفر أراضي المرعى العشبية أيضًا موطنًا للثدييات الصغيرة والكبيرة والصقور والطيور المختلفة والطيور المغردة والحشرات الملقحة. يؤدي تحويل أراضي المرعى العشبية الطبيعية إلى إنتاج المحاصيل إلى خسارة كبيرة في التنوع البيولوجي، حيث أن النباتات المحلية والحشرات والطيور والحياة البرية التي تتطلب موائل طبيعية غير مضطربة لا تزدهر بنفس القدر في ظل أنظمة زراعة المحاصيل الموسمية. لقد تم بالفعل تحويل معظم الأراضي العشبية الأصلية في عديد من البلدان التي بها مراعى إلى إنتاج المحاصيل، وقد أدى ذلك إلى خسائر كبيرة في أعداد الكائنات الحية وإضراب في التنوع الحيوي والبيئة، حيث انخفضت أعداد أنواع من الكائنات الحية بنسبة تصل إلى 87 % خاصة بعض أنواع الطيور في الأراضي العشبية. لذا فإن الحفاظ على الأراضي العشبية والمراعي المعمرة يوفر فائدة بيئية هائلة.


زراعة المحاصيل وتربية الماشية جنبا الى جنب معا


لابد أن ندرك جيدا إنه ليس سيناريو كل شيء أو لا شيء، فالمحاصيل والماشية والمراعي تحتاج إلى بعضها البعض، فعلى سبيل المثال، تنتج محاصيل الكانولا وتنضج بشكل أفضل عندما يتم تلقيحها بواسطة النحل وهناك غيرها الكثير من المحاصيل التي يتأثر إنتاجها. نظرًا لأنه يتم بذر الحقل بأكمله بنفس الوقت، وبالتالي فإن جميع نباتات الكانولا تزهر في نفس الوقت، وكل نبات يزهر لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع فقط. بينما توفر أراضي المراعي العشبية موطنًا لمجموعة واسعة من النباتات التي تزهر في أوقات مختلفة طبقا للنوع. وهذا يعني أن النحل لديه الكثير من النباتات للمساعدة في دعمه خلال فترات طويلة عندما لا تزهر المحاصيل الموسمية. ففي الطبيعة يعيش أكثر من 140 نوعًا من النحل في الأراضي العشبية بالبراري؛ حيث ترتبط وفرة النحل وتنوعه بشكل إيجابي بوجود المراعي.

يمكن للمحاصيل الموسمية أيضًا أن تخدم واجبًا مزدوجا، فمثلا ينتج بعض المزارعون في بعض المناطق كميات كبيرة من الشعير والتي يتم بذر جزء منه فيما يعرف بأصناف الشعير التي تنتج الشعير المناسب لصناعة التخمير، فإذا كانت الحبوب لا تلبي مواصفات معايير التخمير (لأسباب تتعلق بالطقس مثلا أو لأي أسباب أخرى، على سبيل المثال)، فلا يزال من الممكن استخدامها كعلف عالي الجودة للماشية. والوضع مشابه بالنسبة لإنتاج القمح، فإذا كان لا يفي بمعايير الطحن أو التصدير أو غيرها من معايير الاستخدام النهائي الصناعي، فيمكن استخدامه كعلف عالي الجودة للماشية.

وفى نهاية المطاف يمكن أن نقول، نعم، يتطلب إنتاج لحوم الأبقار الماء، ولكن على نطاق أوسع، تعد أبقار اللحم جزءًا حيويًا من نظام متكامل. حيث تحتاج الماشية إلى العشب، ويحتاج العشب إلى الرعي ليظل حيويًا، والعشب يحمي التربة، والتربة الصحية تساعد على الحفاظ على المياه.  توفر النباتات في المرعى العلف للماشية والموئل لعدد لا يحصى من الأنواع للكائنات الحية، والحبوب غير المناسبة لسوق الغذاء البشري والتي يمكن أن تشكل علفًا ممتازًا للماشية، كما يوفر روث الماشية سمادًا طبيعيًا قيمًا للمراعي والمحاصيل. وبالتالي يؤدي النظام بأكمله إلى إنتاج مصدر بروتين صحي عالي الجودة للبشر. تعتمد جميع الأنظمة الغذائية على الماء، ولكن الشيء الأكثر أهمية الذي يجب تذكره هو عدم استهلاك الماء حيث يتم إعادة تدوير كل المياه في النهاية.


الدكتور  فوزي محمد أبودنيا ،  المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث

icon

الأكثر قراءة