الخميس، 06 صفر 1447 ، 31 يوليو 2025

د. فوزي محمد أبو دنيا يكتب.. فك الارتباط الاستعماري فى تغير المناخ

د. فوزي محمد أبو دنيا
د. فوزي محمد أبو دنيا
أ أ
techno seeds
techno seeds
فك الارتباط الاستعماري بمخاطر المناخ هو مفهوم بالغ الأهمية يعالج كيفية تأثير الإرث الاستعماري على فهمنا وتصدينا لأزمة المناخ العالمية. يهدف هذا النهج إلى تفكيك الأطر والمفاهيم المهيمنة التي تتجاهل، أو تقلل من شأن، المعارف المحلية، والتجارب التاريخية، والظلم الهيكلي الذي تواجهه المجتمعات الأكثر تضررًا من تغير المناخ، خاصة في دول الجنوب العالمي.

لماذا نحتاج إلى فك هذا الارتباط ؟


يكمن جوهر هذه الضرورة في التداعيات المستمرة للاستغلال الاستعماري. تاريخيًا، حيث راكمت القوى الاستعمارية ثروات هائلة من خلال استنزاف موارد البلدان المستعمرة، مما أدى إلى إفقار الجنوب العالمي.

تتجلى آثار هذا الظلم اليوم في ضعف قدرة العديد من الدول النامية على التكيف مع تغير المناخ، على الرغم من مسؤوليتها الأقل عن انبعاثات الغازات الدفيئة. وتكمن المشكلة الرئيسية في أن النماذج الحالية لتقييم مخاطر المناخ غالبًا ما تعتمد على مناهج غربية، هذا يؤدي إلى إغفال السياقات المحلية والمعارف التقليدية الضرورية لفهم المخاطر وتخفيفها.

كما أنها تتجاهل الأبعاد التاريخية والاجتماعية، حيث تفصل هذه النماذجالمخاطر المناخية عن جذورها في الظلم الاستعماري وما بعد الاستعماري، مما يحجب الأسباب الحقيقية لضعف المجتمعات.

وأيضا تركز على حلول تقنية مركزية بدلًا من تمكين المجتمعات المحلية من تطوير حلول خاصة بها بناءً على خبراتها ومواردها. بالإضافة الى تعزز عدم المساواة في التمويل، حيث إن غالبية أموال المناخ تذهب إلى الدول الغنية أو مشاريع لا تخدم المصالح المباشرة للمجتمعات المحلية.

مبادئ فك الارتباط الاستعماري


يتطلب هذا التحول الجذري في التفكير والعمل الالتزام بمبادئ أساسية منها الاعتراف بالمسؤوليات التاريخية حيث يجب على الدول الصناعية الكبرى تحمل مسؤوليتها عن الانبعاثات الكربونية المتراكمة وتقديم الدعم الكافي للدول النامية.

بجانب ذلك تمكين المعرفة المحلية وذلك بإعطاء الأولوية للخبرات المحلية في تقييم المخاطر وتصميم الحلول واتخاذ القرارات، ووضع المجتمعات في طليعة جهود الاستجابة لأزمة المناخ. وأيضا إعادة توزيع عادل للموارد من خلال ضمان وصول تمويل المناخ إلى المجتمعات الأكثر تضررًا بشكل مباشر وفعال، مع التركيز على بناء القدرات المحلية والمرونة.

بجانب ذلك تفكيك السرديات التي تصور الجنوب العالمي كضحية سلبية، وتسليط الضوء على قوة هذه المجتمعات وابتكارها. بالإضافة الى وجوب المساءلة والعدالة المناخية من خلال السعي لتحقيق العدالة للمجتمعات المتضررة بشدة من تغير المناخ، بما في ذلك التعويض عن الخسائر والأضرار التي لا يمكن تجنبها.

أمثلة لبعض مبادرات فك الارتباط الاستعماري بمخاطر المناخ


تتجلى هذه المبادئ في أمثلة ومبادرات عملية تسعى لتحقيق فك الارتباط الاستعماري على أرض الواقع، حيث تقود المجتمعات المحلية الجهود وتطبق حلولًا مستدامة مثل التركيز على المعرفة الأصلية التقليدية وذلك بان تعترف المبادرات بوجود أنظمة معرفية غنية ومتراكمة لدى العديد من المجتمعات الأصلية حول كيفية التفاعل المستدام مع البيئة. بدلًا من فرض حلول علمية غربية، يتم دمج هذه المعرفة في تقييم المخاطر وتطوير استراتيجيات التكيف.

على سبيل المثال، سكان ألاسكا الأصليون يستخدمون معارفهم التقليدية للتنبؤ بالتغيرات البيئية، من ناحية اخرى، تطبق مجتمعات السكان الأصليين في أستراليا تقنيه "الحروق الباردة" للتحكم في حرائق الغابات، و التى قد ثبت فعاليتها مقارنة بالأساليب التقليدية.

بجانب ذلك التمويل المباشر للمجتمعات المحلية وذلك من خلال مبادرات فك الارتباط الاستعماري إلى تمويل مباشر للمنظمات والمبادرات التي تقودها المجتمعات المحلية نفسها، بدلًا من منح الأموال للحكومات المركزية أو المنظمات الكبرى التي قد لا توصلها بفاعلية للمجتمعات الأكثر ضعفًا. من المعلوم ان صناديق مثل "صندوق العمل المناخي الذي يقوده السكان المحليون" يهدف إلى تقديم منح مباشرة لضمان تخصيص الموارد بناءً على الاحتياجات والأولويات المحلية، مما يمنح المجتمعات القدرة على تصميم وتنفيذ حلول التكيف الخاصة بها.

أضف الى ذلك إعادة تقييم "الخسائر والأضرار" كعدالة تعويضية بحيث ينظر مفهوم "الخسائر والأضرار" على أنه مسؤولية تاريخية وتعويضية للدول الغنية التي تسببت في معظم الانبعاثات. بدلًا من اعتباره مساعدة إنسانية، تُطالب مجموعات من دول الجنوب العالمي ومنظمات المجتمع المدني بإنشاء آليات تمويل قوية ومستقلة للخسائر والأضرار، لضمان حصول المجتمعات المتضررة على تعويض عادل لمساعدتها على التعافي وإعادة البناء بعد الكوارث المناخية. هذا يحول السرد من "المساعدة" إلى "العدالة" و"التعويض". ليس هذا فحسب بل أيضا منصات المعرفة والمبادرات المشتركة التي تهدف إلى إنشاء منصات يتم فيها إنتاج المعرفة بشكل مشترك بين العلماء التقليديين والأكاديميين والمهنيين والمجتمعات المحلية.

تشمل هذه المبادرات ورش عمل وتبادلات ومشاريع بحثية تشاركية، مما يضمن أن تكون الحلول ذات صلة بالسياق المحلي ومقبولة من قبل المجتمعات. على سبيل المثال، يمكن لعلماء المناخ التعاون مع مزارعين محليين لتطوير نماذج تنبؤية للطقس تستفيد من البيانات العلمية الحديثة والمعرفة المحلية.

توضح هذه الأمثلة المذكورة أن فك الارتباط الاستعماري بمخاطر المناخ ليس مجرد فكرة نظرية، بل هو حركة متنامية تدعو إلى تغيير حقيقي في السلطة، الموارد، والمعرفة، بهدف بناء عالم أكثر عدلاً واستدامة حيث تكون المجتمعات الأكثر تضررًا هي التى لها اليد الطولى في قيادة الحلول.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، ما هي التحديات المتوقعة في ظل تطبيق هذه المبادئ على نطاق واسع في سياق التعاون الدولي؟

فى الحقيقة فإن تطبيق مبادئ فك الارتباط الاستعماري بمخاطر المناخ على نطاق واسع في سياق التعاون الدولي يواجه تحديات معقدة ومتعددة الأوجه، نظرًا للجذور العميقة للأنظمة القائمة والمصالح المتشابكة.

وهنا نحاول أبرز أهم هذه التحديات والتي تتمثل في مقاومة تغيير موازين القوى، حيث يُعتبر فك الارتباط الاستعماري دعوة لإعادة توزيع القوة والموارد، وهو ما قد يواجه مقاومة شديدة من الدول والمؤسسات التي تستفيد من الوضع الراهن. القوى الشمالية، التي تسيطر على التمويل والمؤسسات الدولية، قد لا تكون مستعدة بسهولة للتخلي عن هيمنتها أو الاعتراف بمسؤولياتها التاريخية بشكل كامل. هذا يتطلب تحولًا كبيرًا في الذهنية والسلوك، وهو أمر صعب التحقيق.

بجانب التمويل وتوزيع الموارد، فعلى الرغم من الدعوات لزيادة تمويل المناخ، لا يزال هناك عجز كبير، والجزء الأكبر من التمويل يذهب في شكل قروض بدلاً من منح، مما يزيد من أعباء الديون على الدول النامية. تحدي التمويل المباشر للمجتمعات المحلية يكمن في البيروقراطية، نقص الثقة في قدرة هذه المجتمعات على إدارة الأموال، ورغبة المانحين في السيطرة على المشاريع لضمان "الشفافية" و"الكفاءة" وفقًا لمعاييرهم.

بالإضافة الى هيمنة المعرفة الغربية والأطر المؤسسية، حيث لا تزال المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، تعتمد بشكل كبير على الأطر المعرفية والمنهجيات الغربية. دمج المعرفة الأصلية والتقليدية يتطلب تغييرًا جوهريًا في هذه الأطر، وهو ما يصطدم بالتراتبية المعرفية القائمة التي تميل إلى التقليل من شأن المعارف غير الغربية. إعادة تعريف "الخبراء" و"الحلول الفعالة" يمثل تحديًا كبيرًا. كذلك نقص الثقة والتحيز التاريخي وذلك منذ سنوات العلاقات الاستعمارية وغير المتكافئة والتي خلقت نقصًا عميقًا في الثقة بين الشمال والجنوب.

هذا النقص يتجلى في المفاوضات المناخية الدولية، حيث تشكك الدول النامية في التزامات الدول المتقدمة وتطالب بالعدالة التاريخية. التغلب على هذا التحيز يتطلب بناء جسور من الثقة من خلال الشفافية والمساءلة والاعتراف الصريح بالماضي. بجانب ذلك هناك تحديد مفهوم "الخسائر والأضرار" وآليات التعويض، فعلى الرغم من التقدم المحرز في إنشاء صندوق للخسائر والأضرار، لا يزال هناك خلاف حول حجم التمويل، وكيفية تحديده، ومعايير الأهلية، والجهات المسؤولة عن الدفع.

تحويل هذا المفهوم إلى "عدالة تعويضية" يتطلب الاعتراف بالمسؤولية التاريخية وليس مجرد المساعدة الإنسانية، وهو ما تواجهه الدول الغنية بالتردد لتجنب السوابق القانونية المحتملة. بل ان هناك أيضا التحديات اللوجستية والقدرات المحلية، حيث قد تواجه المجتمعات المحلية تحديات في الوصول المباشر للتمويل وإدارة المشاريع بسبب نقص القدرات الإدارية أو الفنية، خاصة في المناطق النائية.

هذا لا يبرر عدم التمويل المباشر، ولكنه يؤكد على ضرورة بناء القدرات المحلية وتوفير الدعم التقني لتلك المجتمعات. بالإضافة الى التجزئة والتنسيق، حيث ان قضايا المناخ متعددة الأوجه وتتطلب تنسيقًا على مستويات مختلفة (محلية، وطنية، إقليمية، ودولية). قد يؤدي تطبيق مبادئ فك الارتباط الاستعماري إلى تجزئة الجهود إذا لم يتم تنسيقها بفعالية مع الأطر القائمة، مما يعيق تحقيق تأثير واسع النطاق.

وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن السعي نحو فك الارتباط الاستعماري بمخاطر المناخ ليس مجرد ضرورة أخلاقية، بل هو أيضًا استراتيجية حاسمة لضمان استجابة عادلة وفعالة لأزمة المناخ العالمية. فهل تعتقد أن الضغوط المتزايدة من المجتمعات المدنية والجنوب العالمي ستكون كافية لدفع الدول المتقدمة نحو التغيير الجذري المطلوب؟

ا. د. فوزي محمد أبو دنيا
المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني
اشترك في قناة اجري نيوز على واتساب اشترك في قناة اجري نيوز على جوجل نيوز
icon

الأكثر قراءة