الأحد، 19 شوال 1445 ، 28 أبريل 2024

المحررين

من نحن

اتصل بنا

د. فوزي أبودنيا يكتب .. من اجل تحقيق تنمية ريفية مستدامة للمزارع الصغيرة

WhatsApp Image 2024-01-01 at 16.46.37_63acb7e2
ا. د. فوزي محمد أبودنيا ، المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية
أ أ
على مدى زمني بعيد تخطى السبعين عاما لم تكن النظرة الى الريف المصري نظرة صائبة في المجمل فتحول الريف الى حضر وفقد العديد من سماته الرئيسية في المسكن والملبس والمأكل والمشرب والمعاملات الإنسانية والحياتية ولم يعد الفلاح المصري هو ذلك النمط الذي ترسخه في أذهاننا المسلسلات الدرامية بعرض واقع غير موجود ومعالجة درامية تعتمد على التسلية لا أكثر لكنها في واقع الأمر لا تعالج أي قضايا مجتمعية حقيقية على ارض الواقع، برغم كل التحولات التي حدثت في الريف المصري والتي يتم رصدها على استحياء من آن لأخر من قبل باحثين علم الاجتماع.


 والأمر الأخطر في هذا الأمر هو الزيادة السكانية غير المعقولة على وحدة المساحة في الريف المصري والتي أصبحت تستهلك وتلتهم نسبة كبيرة جدا من الإنتاج الزراعي الريفي قبل أن يصل الى الحضر في المدن. وأصبحت تطل علينا مشاكل ارتفاع الأسعار والضغوط الاقتصادية على الأسر الريفية التي أصبحت تئن تحت وطاءة الغلاء خاصة مع مشاكل تغير المناخ، والأثار الناجمة عن وباء كورونا -19 وأيضا أثار الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الخامات والمستلزمات الخاصة بالزراعة من ناحية أخرى فان هناك انخفاض فرص العمل وتفتت الملكيات الزراعية.

 ورغم كل هذا ففي الواقع، قد أصبح يعاني من انعدام الأمن الغذائي شخص من بين كل تسعة أشخاص في العالم (حسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة 2022، والحالة آخذة في التدهور منذ عام 2015 على الرغم من الجهود المبذولة. 


ومن المتوقع أن يصل عدد سكان العالم 10 مليارات نسمة بحلول عام 2050م، وسيحتاجون - رغم آثار تغير المناخ - إلى تغذية على نحو كاف. وتحقيقًا لهذه الغاية، فان على خبراء الزراعة ومتخذي القرار بشان السياسات الزراعية في الدول المختلفة إعادة النظر في الأساليب الزراعية المتبعة والنُظم الغذائية الحالية، وتفعيل مفهوم “القرى الريفية البيئية” من خلال “تنمية ريفية” حقيقية تتجاوز مفهوم دعم مشاريع “الإنتاج الريفي” عبر تقديم الدعم المنظومي الكامل وحل المشكلات (الزراعية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية) عبر اتباع أسلوب حياة مستدام فعلياً طبقا لأنظمة تعتمد على خيارات السلوك الحضري للمجتمع المحلي؛ كاستخدام منازل صديقة للبيئة، وبدائل التقليل من استخدام الطاقة والمياه ومعالجة المخلفات، وتسويق المنتجات والتصنيع الخفيف، وغيره من عناصر سلاسل القيمة والإمداد؛ فيصبح لدينا قرى ريفية مستدامة بيئياً وزراعياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافيا للوصول الى النتيجة المبتغاة وهى إنتاج وتغذية ورفاه لتحقيق أمن غذائي.


بعض الدول لم تقف مكتوفة الأيدي بل بدئت في التحرك لتدشين نماذج وتجارب متعلقة بالقرى البيئية المستدامة، فعلى سبيل المثال فان قرية “فيندهورن” البيئية في اسكتلندا، هي قرية بيئية ناجحة، حيث يعيش السكان في منازل صديقة للبيئة، وتعمل هذه القرى على تحقيق الاستدامة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية من خلال التصاميم المتعمدة على خيارات السلوك الحضري.


تعتبر قرية فيندهورن البيئية مشروع مجتمع معماري تجريبي يمكن دراسته وتقيمه للاستفادة منه في قرى الريف. حيث أن غاية المشروع الرئيسية هي تحقيق تنمية مستدامة من الناحية البيئية، الاجتماعية، والاقتصادية. بدأ العمل في بداية الثمانينات تحت رعاية مؤسسة فيندهورن ولكنها تتضمن الآن تشكيلة واسعة من المنظمات والنشاطات. وتعتبر مثالًا حيًا للتأثير الإيجابي الذي يمكن أن تحققه المبادرات البيئية على المجتمع الريفي. وتتضمن بعض الطرق التي يؤثر بها هذا المشروع على المجتمع المحيط به على النحو التالي:

أولا: - توفير فرص العمل

يعمل مشروع فيندهورن البيئي على توفير فرص العمل للسكان المحليين، سواء كان ذلك في مجال الزراعة العضوية أو في قطاع السياحة المستدامة. وبالتالي، يساهم المشروع في تعزيز الاقتصاد المحلي وخلق فرص عمل جديدة. 

ثانيا: - التوعية البيئية

 يسعى المشروع لتوعية السكان المحليين والزوار حول القضايا البيئية وأهمية الحفاظ على الطبيعة المحيطة بهم. فعلى سبيل المثال، يتم تنظيم جولات وورش عمل للزوار لمشاهدة وفهم كيفية إدارة المزارع العضوية واستدامتها، والعمل على تبنيها ودعمها. 

ثالثا: - حماية البيئة

يعمل المشروع على حماية البيئة المحيطة به من خلال استخدام الممارسات الزراعية العضوية وتقليل استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية. كما يهدف المشروع إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي والحيوانات والنباتات البرية في المنطقة، ومن الجدير بالذكر أن أنواع كثيرة من الحيوانات البرية في البيئة الزراعية قد اندثرت أو قاربت على الاختفاء.

رابعا: - التأثير الاجتماعي

يؤدي المشروع أيضًا إلى تعزيز التواصل والتفاعل بين السكان المحليين والزوار والمسافرين الذين يزورون القرية. على جانب أخر يتم تنظيم العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية في المنطقة، مما يعزز التبادل الثقافي والتعايش المشترك.

بشكل عام، يعمل هذا المشروع البيئي على تعزيز التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة والثقافة المحلية. وبذلك، يحقق تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع المحيط به من خلال توفير فرص العمل وتعزيز الوعي البيئي وحماية الطبيعة وتعزيز التفاعل الاجتماعي. ومن هذا المنطلق فانه من المهم الاهتمام بمثل هذا الأفكار التي تدعم التنمية في الريف ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع أهداف سياسة شاملة للرفاهية الوطنية، لتحل محل هدف النمو الاقتصادي، من أجل تحسين الروابط الريفية الحضرية؛ بناء أنظمة غذائية مستدامة، وزيادة جودة حياة الناس، وسعادتهم أو رفاههم الشخصي، حيث توفر القرى البيئية مستوى عالٍ من التنمية والأمن الغذائي والرفاه، لتمكين المجتمع الأوسع من التركيز على عملية تحقيق مستوى أعلى من الرفاهية لجميع السكان من أجل التنمية المستدامة.

أهمية ربــط المزارع الصغيرة بالأسواق من أجل تحقيق تنمية مستدامة


على الجانب الآخر يُمثـل تمكين¬ صغار المنتجـين¬ الزراعيين¬ ومنتجـي الأغذيـة مـن الوصـول إلى الأسـواق ذات المسـتويات العاليـة مـن الكفـاءة والشـفافية والقــدرة التنافســية، جـزء أسـاسي مـن أي اسـتراتيجية تنميـة زراعيـة وريفيـة أكثر إنتاجيـة واسـتدامة، حيث يعمل عــلى الصعيــد العالمــي أكثر من 80 بالمائة مــن صغــار المُــلاك في أسـواق الغـذاء المحليـة. ومــع توســع الاقتصــاد الريفــي وتطــور شــبكات الريف-المــدن، سيشــتمل ذلــك عــلى الوصــول إلى أســواق الســلع غـير الزراعيــة بالإضافــة إلى العمــل بأجــر خــارج المــزارع، وتوفــر الأســواق الأكثر ترابطـاً فرصـاً هائلـة لتحقيـق مزيـد مـن الدخـل، ولكـن هنـاك أيضـاً مخاطـر مرتبطـة بطول سلاسـل القيمـة الغذائيـة والتـي تلعـب فيهــا العوامــل الخارجيــة دوراً أكــبر والتي يكــون للمزارعـين¬ أصحــاب الحيـازات الصغيرة سـيطرة أقـل عـلى أسـعار المدخـلات والمخرجـات فيها. وبينـما تجلــب أســواق الســلع الدوليــة المزيــد مــن الطلــب، إلا أنهــا توفـر بشـكل عـام هوامـش أقـل بالنسـبة لأصحـاب الحيـازات الصغيرة، ومـن الأرجـح أن يتأثـروا بالمضاربـة (المزايدات) ولا يكـون بقدورهـم الوصـول إليها إلا من خلال العقود، وهذا الأمر يجب النظر إليه بشكل مختلف على سبيل المثال إنشاء شركات تسويق لتجميع وتسويق السلع الغذائية من الحقل الى المستهلك في ظل سلاسل إمداد قليله وتجميع إنتاجية جيدة وكبيرة يمكن استغلالها في التصدير وبالتالي نكون قد قمنا بفتح أسواق غير تقليدية للمزارع المصري. في الواقع إن إتاحة إطــار اقتصــادي كلي سوف يسهم في ربــط أصحــاب الحيـازات (المزارع) الصغيرة بالأسواق في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال: 

 إن تحسين¬ البنيــة الأساســية والســلع العامــة واللوائــح والسياســات والبيئــات القانونيــة، ســيتيح إطــار اقتصــادي كلي، بما في ذلــك المزارعـين ¬الأسريين¬ أصحــاب الحيــازات (المزارع) الصغـيرة وبالتالي إمكانيــة أكــبر للوصول إلى الأسواق.
 إن توفير معلومــات محســنة ذات ثقة عــن الســوق والإرشــادات الخاصــة بمأمونيــة الأغذيــة، بالإضافة إلى التركيز على الإنتاج والتسويق ذي القيمة المضافة، يمكـن منظمات المنتجين¬ من مسـاعدة أصحـاب الحيـازات الصغـيرة في الوصــول إلى مجموعــة مــن الخدمــات.

 لضـمان انخراط أصحـاب الحيـازات الصغيرة بشـكل كامـل في السوق والاستفادة من الفرص الجديدة، يعتبر بنـاء مهـارات ريـادة الأعـمال والتجـارة وقـدرات أصحـاب الحيـازات الصغيرة أمـراً أساسـياً.

 يمكن تمكين أصحـاب الحيـازات الصغيرة مـن الوصـول إلى الأسـواق، وفي الوقـت نفسـه ضمان حصــول المســتهلك¬ المهمشين¬ عــلى أغذيــة صحية وبأســعار معقولــة في فــترات فشــل الســوق وذلك عن طريق المشـتريات الحكوميـة كي تدعـم المزارعـين¬ ومنتجـي الأغذيـة. وتمثــل المســاعدات الغذائيـة والتغذيـة المدرسـية أمثلـة عـلى ارتبـاط أصحـاب الحيـازات الصغيرة بالطلب على الغذاء والمنتجات الزراعية.

 إن فهـم تأثير القيـود التجاريـة والتشـوهات في الأسـواق الزراعيـة، بما في ذلــك إلغــاء إعانــات صــادرات القطــاع، ســيكون أساســياً لإيجـاد أسـواق زراعيـة وطنيـة ودوليـة صحيـة ومسـتدامة وجيـدة الأداء، وكذلك للاستفادة من الفرص التي توفرها التجارة.
 يمكن توفـير أســعار عادلــة وشــفافة تكافــئ بشكل مناسب عمل واستثمارات أصحاب الحيازات الصغيرة، وذلك عن طريق المساعدة في الترويـج لخلـق بيئـة سـوق أكثر تمكينـا لأصحـاب الحيــازات الصغـيرة.

 سـيعود حـل مشـاكل إيجـاد فـرص العمـل اللائقـة وعمالـة الأطفـال في الزراعــة والمناطــق الريفيــة بالنفــع ليــس في تحقيــق أهــداف التنميــة الاجتماعيــة فحســب، بــل أيضــاً في المســاعدة عــلى اعتـماد المنتجات الزراعية للتصدير.
 الحصـول عـلى التكنولوجيـا يـسرع التغيـير، ويمكـن أن تسـاهم أجهـزة إدارة البيانــات، مثــل الهواتــف المحمولــة والتطبيقــات، في نقــل معلومــات الأســعار بسرعــة وبشــفافية وبدقــة، والمســاعدة في التفاوض من خلال جمع المنتج¬ والتجار معاً.

ا. د. فوزي محمد أبودنيا ،  المدير الأسبق لمعهد بحوث الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية
icon

الأكثر قراءة