في عالم يتزايد فيه الوعي بالصحة والتغذية، نبحث دوماً عن مصادر غذائية جديدة ومستدامة توفر لنا أقصى فائدة بأقل تكلفة. ومن بين هذه المصادر التي غالباً ما يتم التغاضي عنها، يبرز "شرش اللبن" كبطل صامت، هذا السائل المائي ذو اللون الأصفر المخضر الذي ينتج كمنتج ثانوي أثناء تصنيع الجبن أو الزبادي.

لعقود طويلة، اعتبر شرش اللبن مجرد مخلف صناعي، يتم التخلص منه في كثير من الأحيان، مما يمثل عبئاً بيئياً واقتصادياً. ولكن مع تطور الأبحاث العلمية، تغيرت النظرة إلى هذا السائل بشكل جذري، ليكشف عن كونه كــــنزاً غذائياً حقيقياً، يمتلك قيمة صحية هائلة تجعله جديراً بالاهتمام والتقدير.

ما هو شرش اللبن؟

هو ناتج ثانوي من صناعة الجبن وهو عبارة سائل مائي ذو اللون الاصفر المخضر وينتج عقب تكسير او تقطيع خثرة الجبن سواء كان التخثر حمضيا او انزيميا ويتميز هذا المنتج الثانوي بإحتوائه علي العديد من المكونات مثل بروتينات الشرش و سكر اللاكتوز و الاملاح المعدنيه و الفيتامينات القابله للذوبان في الماء مثل فيتامين B و فيتامين C

أنواع الشرش:
الشرش الحلو : وينتج أثناء خطوات تصنيع الجبن النصف جاف وبعض أصناف الجبن الجاف ويتميز باحتوائه على نسبة من بروتينات الشرش والدهن والأملاح المعدنية والفيتامينات .

الشرش المملح : هذا النوع الذي ينتج في مصر أثناء إنتاج الجبن الدمياطي وذلك لإضافة الملح في اللبن وهو أيضا يسبب تلوثا بيئيا ويمكن الاستفادة منة عن طريق فصل الملح واستخدام الناتج في صناعة أعلاف الماشية والدواجن بعد التخلص مما بة من دهن بالفرز لصناعة السمن وما يتبقى من الناتج يدخل في صناعة الأعلاف.

شرش اللبن كنز بروتيني وفيتاميني ومعدني:

إن السمة الأبرز لشرش اللبن هي محتواه الغني بالبروتين عالي الجودة. بروتين شرش اللبن (Whey Protein) يُعد من البروتينات الكاملة، أي أنه يحتوي على جميع الأحماض الأمينية الأساسية التي لا يستطيع الجسم تصنيعها ويجب الحصول عليها من الغذاء.

يتميز هذا البروتين بسرعة هضمه وامتصاصه، مما يجعله مثالياً لبناء العضلات، وإصلاح الأنسجة، ودعم الوظائف الحيوية للجسم. هذا ما يفسر شعبيته الكبيرة في صناعة المكملات الغذائية للرياضيين وبناة الأجسام.

لكن القيمة الغذائية لشرش اللبن لا تتوقف عند البروتين فحسب. فهو أيضاً مصدر جيد لـ:

اللاكتوز (Lactose): سكر الحليب الطبيعي الذي يوفر الطاقة.

الفيتامينات: يحتوي على مجموعة من فيتامينات ب، خاصة فيتامين B2 (الريبوفلافين) و B12، وهما ضروريان لعمليات الأيض وإنتاج الطاقة.

المعادن: يزخر بمعادن حيوية مثل الكالسيوم، الفوسفور، البوتاسيوم، والمغنيسيوم، وكلها تلعب أدواراً أساسية في صحة العظام والأسنان ووظائف الأعصاب والعضلات.

الجلوبيولين المناعي (Immunoglobulins) واللاكتوفيرين (Lactoferrin): وهي مركبات بروتينية تساهم في تعزيز الجهاز المناعي.

البيبتيدات النشطة حيوياً (Bioactive Peptides): وهي سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية تمتلك خصائص صحية متنوعة، بما في ذلك خفض ضغط الدم وتحسين صحة الجهاز الهضمي.

شرش اللبن في الطب والصحة:

تتعدد الفوائد الصحية لشرش اللبن ومنتجاته، مما يجعله مكوناً ذا قيمة عالية في الأنظمة الغذائية الصحية والوقائية:

بناء العضلات: نظراً لغناه بالبروتين والأحماض الأمينية متفرعة السلسة ، فهو مثالي لدعم نمو العضلات.

صحة العظام: بفضل محتواه العالي من الكالسيوم والفوسفور، يلعب دوراً هاماً في تقوية العظام والوقاية من هشاشة العظام.

تعزيز المناعة: المركبات الحيوية مثل اللاكتوفيرين والجلوبيولين المناعي تدعم الجهاز المناعي، مما يساعد الجسم على مقاومة الأمراض.

خفض ضغط الدم: بعض الدراسات تشير إلى أن ببتيدات معينة في شرش اللبن يمكن أن تساهم في خفض ضغط الدم، مما يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب.

صحة الجهاز الهضمي: اللاكتوز والبروتينات في شرش اللبن يمكن أن تدعم نمو البكتيريا النافعة في الأمعاء، مما يعزز صحة الجهاز الهضمي.

له خواص مضادة للأورام السرطانية: ويعزى هذا التأثير إلى احتوائه على الأحماض الأمينية الكبريتية حيث تدخل هذه الأحماض في تخليق الجلوتاثيون وبالتالي يتحكم في مستوى الجلوتاثيون الخلوي وهذا يقلل من مخاطر كثير من الأمراض والتي تشمل السرطان وتصلب الشرايين.

تطبيقات شرش اللبن: من المشروبات إلى الصناعات الغذائية
لم يعد شرش اللبن مجرد سائل يتم التخلص منه، بل أصبح مكوناً أساسياً في العديد من الصناعات الغذائية والصحية. يتم معالجته بطرق مختلفة لإنتاج منتجات متنوعة مثل:

بروتين شرش اللبن المركز (WPC): يحتوي على 70-80% بروتين.

بروتين شرش اللبن المعزول (WPI): يحتوي على أكثر من 90% بروتين، وهو مثالي لمن يعانون من حساسية اللاكتوز أو يبحثون عن محتوى بروتيني أعلى.


بروتين شرش اللبن المتحلل مائياً (WPH): يتميز بسرعة هضمه العالية، مما يجعله مناسباً للأشخاص الذين يعانون من مشاكل هضمية.

تُستخدم بروتينات الشرش بكثرة في بعض المنتجات الغذائية مثل:

المشروبات الرياضية والبروتينية: كمصدر أساسي للبروتين.

أغذية الرضع: كبديل للحليب البشري في بعض تركيبات حليب الأطفال.

منتجات الألبان المخمرة: مثل الزبادي والمشروبات اللبنية.

المخبوزات والحلويات: لتحسين القيمة الغذائية والقوام.

اللحوم المصنعة: كمادة رابطة ومحسنة للقوام.

التحديات والآفاق المستقبلية نحو استغلال أمثل لهذا الكنز

على الرغم من الفوائد الكبيرة لشرش اللبن، إلا أن هناك تحديات تواجه استغلاله بشكل كامل، منها:

الكميات الهائلة المنتجة: التي تتطلب بنية تحتية قوية للمعالجة والتخزين.

احتواؤه على اللاكتوز: مما يجعله غير مناسب لمن يعانون من حساسية شديدة للاكتوز، على الرغم من وجود أنواع معزولة وخالية من اللاكتوز.

التكلفة: قد تكون تكلفة معالجة وتحويل شرش اللبن إلى منتجات ذات قيمة اقتصادية مرتفعة.

ومع ذلك، فإن الآفاق المستقبلية لشرش اللبن واعدة جداً. تتجه الأبحاث نحو تطوير تقنيات جديدة لاستخلاص المزيد من المركبات النشطة حيوياً منه، مثل اللاكتوفيرين والجلوبيولين المناعي، لاستخدامها في الأدوية والمكملات الغذائية. كما يتم البحث عن طرق مبتكرة لاستخدامه في مجالات أخرى غير غذائية، مثل صناعة الوقود الحيوي أو الأسمدة الزراعية.

في الختام

يمثل شرش اللبن قصة نجاح حقيقية في تحويل "المخلفات" إلى "ثروات". فبعد أن كان يُنظر إليه كعبء، أصبح اليوم يُصنف كأحد الأغذية الوظيفية الفائقة، لما يمتلكه من قيمة غذائية وصحية لا تُقدر بثمن. إن التوعية بأهميته ودعم الأبحاث لتوسيع نطاق استخدامه سيساهمان بلا شك في تعزيز صحة المجتمع ودعم الاقتصاد، ليصبح هذا "السائل الكنز" جزءاً لا يتجزأ من أنظمتنا الغذائية والصناعية في المستقبل القريب.

د/ صبحي ميخائيل صبحي غالي
 باحث بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية